طقوس قديمة

 

كانت ثمة حياة.

المساءات الشتوية تتحول إلى طقس أسطوري تعزفه جوقة من زخات مطر يستدل على الطريق بالتلمّس، لتبدأ الليلة ببهائها كلّه؛ يضاء مصباح الكاز، ويرفع فوق منضدة خشبية تتوسط الغرفة الواسعة المسقوفة بـ"القصيب".

اضافة اعلان

ليلة دافئة أخرى تكون على وشك الانطلاق على صوت "طقطقات" الخشب المشتعل داخل المدفأة الحديدية الضخمة.

نستشعر الحرارة وهي تلسع وجوهنا في هبات دوريّة، فيطلق الدفء المنبعث من الحطب المشتعل ألسنة الموجودين، يستذكرون فيها ليالٍي "شتائية" ماضية، كيف كان الكبار صغارا يرافقون آباءهم إلى الحقول، يصلحون انجراف التربة، ويعدلون من وضع "السناسل" التي اجتاحتها السيول القوية.

فجأة، يعلو صوت إبريق الشاي النحاسي الموضوع فوق الموقد، فتتخاطفه الأيدي بسرعة قبل أن يفور ماؤه فوق الحطب المشتعل ويصدر عنه الدخان اللعين.

وفي الحال تبدأ وجبة العشاء: الخبز المحمص فوق الموقد والزعتر والزيت والشاي، لم تكن في الأفق أصناف طعام أخرى تذكرهم بها قوائم أنيقة في مطاعم يصعب تلفظ كامل حروفها.

ما إن تنتهي الوجبة، حتى تلوح في الأفق بوادر الأحاديث اللذيذة عن "الجان" و"العفاريت"، عادة متوارثة منذ أجيال طويلة لا يكاد يخلو منها بيت في مثل ذلك الجو الأسطوري، و"الجدة".. هي سيدة الجلسة، حيث تعطي للحديث بعده الزماني والمكاني لتضفي عليه إثارة أكبر.

تتحدث عن أناس شاهدوا "الجن" و"العفاريت".. كلموها وخبروا بطشها وجبروتها، وعمّن تأذى منهم بسببها، عندها لا بدّ للأم من أن تتدخل للتذكير ـ وللمرة الألف ـ بـ"صبحى" التي "ضربها الجن" فَشَلَّ أطرافها الأربعة، مستشهدة بأنها ما تزال مشلولة إلى اليوم.. ثم من جديد تنكبُّ على صنّارة الليف "تطبّق" ليفة جديدة تباع ببضعة قروش للمساهمة في معيشة الأسرة.

نلتصق ببعضنا بعضا، وتتشابك أيدينا، كأنما نوحد الصفوف في مواجهة أي احتمال لغزو "العفاريت".. ويسأل أحدنا بصوت متهدج، غلبته الإثارة:

و"أبو مرسة" يا جدة؟

ولـ"أبو مرسة" حكاية أخرى، إنه ذلك المجهول الذي يجوب ظلام القرى متخفيا بلباس أسود، يحمل حول عنقه حبلا غليظا يخنق به ضحاياه الذين يكونون عادة من الأطفال المتأخرين عن بيوتهم مساء، يجدهم فريسة سهلة لنزوته الدموية.

ينطبع اسم "أبو مرسة" في الذاكرة، لننسج له في خيالاتنا أوصافا تليق بشخصيته، تمنحه بعدا أسطوريا يجذب إليه خيال الأطفال، ويمر زمان طويل نكون قد انهينا فيه المرحلة الإعدادية، لنكتشف أن "أبو مرسة" لم يكن سوى نتاج خيال خصب لأب اكتشف أخيرا الطريقة الأفضل لعدم تكرار تأخر ولده خارج البيت.

وتنتهي الأحاديث الشهية.. تطالب أعيننا بالمزيد، ولكن تثاؤب الكبار يبعث في جوفنا حمّى النعاس، نتذكر تعبنا فجأة، ومشاريع اليوم التالي، و"الدواحل" المخبأة.. فنأوي إلى فرشاتنا ممتلئين بأحلام يوم آخر من المغامرات الشتائية.

ننام على صوت نقر حبات المطر فوق النوافذ الخشبية.. التي كثيرا ما ننتبه إلى وجه "أبو مرسة" وهو يطالعنا من خلف زجاجها، متلفعا بالظلام.. وبحباله القاسية.

***

.. كانت ثمة حياة.

[email protected]