طلب انتساب إلى "الكنبة"

كأنّي اشتريتُ بيتاً جديداً، لكنّي في الحقيقة اشتريتُ هاتفاً، وأغلقتُ الهاتف القديم كما يُغلق بيت الجدّ الخامس. نقلتُ الصور الحميمة، والمحادثات الليليّة، وكل أشياء الحبّ التي يمكن استخدامها في أكثر من قصة. نقلتُ أيضاً رسائل من جهات حكومية غاضبة، وخرائط إلى طرق بين الأبراج السحابيّة، وحسابين بنكيين من سبع خانات، وتطبيقات سوداء وخضراء مثل أصص النعناع. حملتُ معي ألعاباً أقلّ من متوسط العمر والذكاء، وأغاني عراقية عن هجر النساء، ومقاطع ضاحكة سأحتاجها لاستدرار الدمع. شيء وحيدٌ استعصى على النقل.. الرائحة. أخذتُ معي اسمي الذي لولا الهواتف الذكية لتكاسلتُ عن حمله كاملاً، وبصمة السبّابة التي تميّزني بما لستُ مميَّزاً به، وتطبيقاً فضولياً يعدُّ خطواتي إلى الأمام وإلى الوراء، وصوراً كنتُ التقطتُها لذاتي مع ذاتي وحرصتُ على أن تكون الذات الأولى منشغلة بأمر ما. أخذتُ أيضاً الأرقام السريّة التي لا تبدو كذلك، فهي إمّا تعود لتاريخ ميلادي مع إضافة الرقم صفر، وإما لتواريخ أيّام الذروة في حرب الخليج الثانية. حملتُ معي أسماء أصدقاء قدامى، وأرقاماً غير محفوظة كانت على ما يبدو لأصدقاء. هاتف جديد.. وهذا يعني أنّه كان بإمكاني أن أبدأ بالكتابة على مياه بيضاء، وأتراجع مثل سياسي ثعلبيٍّ عن كلّ ما كتبته بين الثورة والانقلاب. كان يمكن أن أجرّب الرأي الآخر، ذلك الذي كنتُ أعتقد أنه ديماغوجي وكثير الحِبال. أتيح لي أن أقفز إلى الانتهازية وأعود إلى الأصولية، وأجرّبُ أقصى اليسار، وأن أرى الديكتاتور طيّباً يربّي الأسماك الملوّنة، ويفضل الطعام النباتي. كان يمكن على الأقل أن أدخل منطقة الحياد وأجرّب شعور البلادة، وأنتسب إلى الحزب الذي لا يحتاج إلى طلب انتساب: الكنبة! أدخل إلى الهاتف الجديد.. هناك ذاكرة أوسع بناء على معلومات مؤكدة وصلت للشركة المنتجة تفيد بأنّه سيكون لي حياة ديناميكية، فسأحبُّ أكثر من امرأة في التغريدة الواحدة، وأكتب عن الحروب من ثلاث وجهات، وهناك مساحة تخزين هائلة تكفي "مائة عام من العزلة"، ودخول "الحبّ في زمن السرطان". تقول النشرة الترويجية إن هناك ميّزات وأبعادا جديدة في الكاميرا للصورة الجماعية، وهي نبوءة أنّي لن أكون وحيداً، وشاشة قليلة الحواف والصورة تملأ الجهاز بما يغنيني عن الذهاب إلى دار السينما والمسرح وملعب كرة القدم، وما وراء العتبة. بعد عامين سيصبح الهاتف الجديد قديماً، سأغلقه كما يُغلق بيت الجدّ الخامس. سأشتري هاتف الموسم، وأبدأ عملية النقل ولن أنسى شيئاً على جدران البيت القديم. ستكبر الذاكرة لتستوعب أغنية عراقية جديدة الحزن، وتزيد الصورة بُعداً لتستوعب كلّ المارة الذين سأحسبهم أصدقاء، ستتاح لي الفرصة أن أبدأ الكتابة على مياه بيضاء، وأتنقلُ كالقرد الضاحك بين اليمين واليسار، لكنّي سأظلُّ مصراً على أن الحيادَ بَلادَة، والديكتاتور لا يأكل إلاّ اللحوم النيئة، وسأبقى ذلك الكائن الذي أنتجته شركة الهواتف.. القويّ، الزاهد، المُستغني، الذي لا يخشى سوى نفاد الشحن!اضافة اعلان