طَعمُ الخامسة صباحاً

شربتُ حليباً سائلاً، كانَ جافاً في علبة نصف حمراء في فواصل إعلانات التلفزيون التي استدرَجَتْنا لننمو ونتورط في الحياة أكثر، وشربتُ الحليب الساخن من ضرع بقرة عابسة لتأخير الكهولة، هكذا نصحني جدّي ابن الأرض. واظبت على شرب الحليب الطازج في القرية، والمجفّف في المدينة طوال مرحلة الطفولة التي أنهيتُها في السابعة، عندما انتهزتُ فرصة خروج الضيوف لأشرب بواقي فناجين قهوة، وأذهب لنوم خفيف، وعندما أفقتُ تحسّستُ منبت الشاربين. لم تصدُقْ فيما يبدو الخرافة التي تحفّز الأطفال على الفِطام، فشربتُ الشايَ الأسودَ بعد تبردته في صحن الفنجان. أذكر كلَّ ذلك، لكن لا طعمَ الآن في فمي.اضافة اعلان
مرضتُ بأمراض سريعة وتافهة، وقد حدث هذا كثيراً في طفولة هي لتأنيث الشقاء، وكان الطابق السفليّ من "النمليّة" صيدليّة أمّي التي لا تخطئ طرق الشفاء، بدون الحاجة لأحرف لاتينية متشابكة تبدو مكتوبة بأقدام الدجاج. فالبابونج للكحّة الموسميّة الخالية من الريبة، والزعتر للتخلص من غازات تداهمني بلا مواعيد محدّدة، والقرفة بالعسل لتفتيت احتقانات الأنف ووقف سيلان الانفلونزا، وكوبان متباعدان من الميرمية لعدة أمراض كامنة، والزنجبيل لبلغم خفيف لا يفوق خبرتَها الطبيّة، والسحلب للدفء في تشرين الثاني وصباحات دوام الفترة الأولى. أذكر أكثر من ذلك، لكن لا طعمَ الآن في فمي.
تقدّمَ الوقتُ أو أنّني بالغتُ في المشي المستقيم. في التوجيهي حتى أسهر للنجاح كان المنبّه المعتمد فنجان "نسكافيه" المكسور سواده ببودرة بيضاء أو حليب سائل بمقدار علبة "السعوط"، أما القهوة الحلوة الخفيفة، في كوب بلاستيكي غير مستردٍّ، فهذه كانت علامة قراءة متأخرة لشعر بدر شاكر السيّاب في كافتيريا الآداب لطالبة علم النفس، ولما يوهمني مجموعة من القراء أنّني "كاتب"، فلا بدّ من شراء الهمِّ، وقضايا كُبرى تنزعُ السكَّر من القهوة التركيّة بوجه "غيفارا"، ثم ستبدأ مرحلة الكابتشينو، بالرغوة المثيرة لما يتاح لي أنْ أرافق حباً من المخمل الحريريّ في "الحمرا"، ثمّ لاتيه بالحليب المخفوق، وبالكراميل الذي يسقط هيبة العشق، وينتهي كل شيء ببساطة، كما يُمكن لـ اسبريسو مركّزة بجانبها قطعة شوكولاته سوداء منزوعة السكّر، أنْ تختصِرَ لقاء عاشقين. وأذكر شيئاً من ذلك، لكن لا طعمَ الآن في فمي.
أتمهّل في المشي المتعرِّج الذي يطيلُ الطريق، كلُّ النشرات الطبية تنصحني بشرب الشاي الأخضر، أُكثِر منه، ولما أملّ كما يحدثُ ذلك في الحبِّ، أشربه بالطريقة المغربية الاحتفالية، أتهيأ لحبِّ النادلة، وأبالغ في تكثيف الحزن، وفي أوله أعدُّ شاياً عراقياً داكناً، مُراً، ويلذعني غناء من الفرات. أتمهّل، أقرأ كلّ الوصفات الطبية التي تحميني من أمراض قادمة، أشربُ كلّ المشروبات الساخنة التي تحمي من الزهايمر وآفات النسيان، لا أريدُ أن أنسى وأمشي من دوني، أذكرُ كلّ ذلك، وأكثرَ من ذلك، وأشياءَ أخرى؛ لكن لا طعم الآن في فمي، سوى طعم الخامسة صباحاً، في الخامسة من العمر، و"كاسة" صغيرة من شاي خفيفٍ وحليب "كارنيشن" من علبة دائرية حمراء مثقوبة، ودمع مبكّر لا أفهمه لـ"عبد الباسط"، وزامور باص مدرسة البنات النائمات، ونعناع في أصص فلّين، وصوت "ستّي" حين توقظ النّهار.