تلملم أحزانها وقهرها ووجعها من قساوة الدنيا، وتتوجه إلى حاويات القمامة تلتقط ما تيسر لها لإطعام أبنائها الثلاثة. سيدة تعتاش هي وأبناؤها على فتات الخبز الناشف الذي يلتقطونه من الحاويات المتواجدة على أبواب العمارات السكنية. وما يتبقى من الخبز تبيعه لمربي المواشي لتحظى بنقود قليلة علها تجلب لها شيئا تتناوله على مائدة لا تحتوي سوى المرار والجوع والعوز.
غير أن الأمور لا تسير معها برتابة دائما؛ فأحيانا يحالفها الحظ فتجد بعضا من بقايا علب الأجبان أو مواد صالحة للأكل، تأخذها سريعا إلى البيت ليأكلوها مع بقايا الخبز المتناثرة.
ابنها الأكبر، وبعد العودة من المدرسة، يقوم بجمع الخبز من الحاويات. يجول لساعات طويلة في الشوارع يجمع كل ما تقع عليه يداه، ليعاود في الصباح الباكر التوجه إلى المدرسة من جديد.
بيتها المتهالك يفتقد لمقومات حياة كريمة؛ بارد وموحش كأنه يختصر قسوة الشتاء. وفي قصتها تفاصيل مؤلمة كما تناولها التقرير الذي نشر في “الغد” للزميلة تغريد السعايدة.
وسط الأجواء شديدة البرودة، تفتقد أم زيد للمدفأة التي يمكن أن تجمع حولها أطفالها، فهي تستخدم “بابور” غاز للطبخ والتدفئة في الوقت ذاته، لأنها لا تملك ترف اقتناء أسطوانة غاز أخرى.
تلك السيدة التي تحمل في قصتها الكثير من الأسى لا تتمنى إلا أن ينال أبناؤها تعليما جيدا، علّهم يساعدون أنفسهم وينشلونها من هذه الحياة المتعبة، فهي المعيلة الوحيدة بعد أن توفي زوجها، ولا تجد أحيانا ما يسد رمق جوعهم إلا من بعض المحسنين وأهل الخير الذين قد يتفقدونها من فترة لأخرى. تعيش في منطقة على أطراف عمان. وكحال عائلات كثيرة تعيش حالة مرارة وعوز وحاجة، تنتظر أن يتصدق عليها أهل الخير.
مثال أم زيد سيبقى وحيدا إن نحن لم نفتح أعيننا على فقراء كثيرين متعففين بيننا. ماذا يكون الحال لو ذهبنا إلى الأطراف في المحافظات وفي قرى تغيب عنها أبسط الضروريات، ولا تتوفر فيها أحيانا اشتراطات الحياة اللازمة!!
في شوارعنا الكثيرة هناك عائلات تقبع في زوايا بيوت لا تشبه البيوت، وخالية من كل شيء ومن أبسط مقومات العيش بكرامة واكتفاء. يحتاجون مبلغا قد لا يعني للبعض شيئا، لكنه يعني لهم الكثير!
وبيننا.. رجل كذلك يبدأ يومه باكرا ينتظر ما تجود عليه الحاويات بعد أن امتلأت الليلة الماضية بما لذ وطاب من بواقي الطعام. يأكل ما تيسر له ويأخذ الباقي لأهل بيته الذين ينتظرون ما يجلبه لهم هذا الأب الذي يشعر بفرح كبير إن وجد شيئا كبواقي قطع إثاث وأشياء يمكن بيعها بأي ثمن.
ورب عائلة تحكي ملامحه عن الهموم والآلام، لا يريد سوى بعض الكاز الذي يعبئه في مدفأته الصغيرة. يقف على محطة البنزين يطلب من العامل أن يضع له بدينار واحد في “العبوة” الصغيرة التي يحملها، قد لا تجلب له شيئا مع ارتفاع أسعار المحروقات باستمرار، لكنه لا يرغب إلا ببعض الدفء هو وأطفاله في ليلهم البارد الطويل.
هي قصص ليست من وحي الخيال. بيوت موحشة بلا أبواب ولا شبابيك تعيش فيها عائلات، وآخرون يعيشون تحت سقف قد ينهار في أي لحظة. وهناك آخر يحمل فرشته وغطاءه باحثا عن ركن على جانب الرصيف ينام فيه بليله الموحش فلا مأوى له. وأم تذهب لصاحب ملحمة تطلب منه بواقي العظم، تسلقه حتى يتسنى لهم تذوق مذاق اللحم. وقصص أخرى كثيرة وموجعة لا تنتهي حلقاتها.
هي حكايات تمتد على طول الوطن لمن يعانون العوز والحرمان. يختبرون الجوع في كل لحظة ولا يستطيعون مقاومة سُعار الأسعار الذي ينهش فيهم يوما بعد يوم.
لا نعلم إن كان المسؤولون يدركون جيدا أن هناك عائلات لا تجد ثمن رغيف خبز تأكله على معدة خاوية. لا تريد شيئا سوى أن يتركوها وشأنها. أن تتناول وجبة طعام بعزة وكرامة، لا أن يحملوها ما هو فوق طاقتها ليسدوا “عجزهم” من جيوبها الخالية.