عاصفة سليم بركات!

من جديد، يرمي أحدهم حجرا، فينطلق آلاف العقلاء بالركض وراءه، من دون تبين الغاية الأساسية لرمي ذلك الحجر الأعمى.
في أحدث المعلومات التي أراد لها أصحابها أن تكون فضيحة، لجأ الكاتب الكردي سليم بركات إلى إفشاء ما قال إنه سر لا يعرفه كثيرون، وهو أبوة الشاعر محمود درويش لفتاة تخلى عنها، ولم يمنحها أي شعور أو تقبل.اضافة اعلان
قبل الدخول في دوامات سليم بركات، ينبغي لنا أن نسأل: هل ينبغي للشخص أن يكون قديسا لكي يكون مبدعا؟!
بعيدا عن مدى صدقية قصة بركات عن درويش، يتوجب علينا أن ننظر إلى الأمور من زاوية أخرى مختلفة تماما. ما الذي يعنينا في ترك درويش ابنة له، إن كنا نسأل في الأصل عن التفوق والنبوغ الإبداعي!
ما الذي تغير في نصوصه. وكيف لنا أن نعرّض أديبا للنقد على أمر خارج سياق الإبداع!
في كثير من الأحيان، ظل ينظر إلى درويش خارج السياق الإبداعي. ففي سعينا الحثيث للبحث عن أيقونة ونجم وأسطورة ومثال، وضعنا بعض الأسماء خارج السياقات المنطقية، ونسينا للحظة أنهم بشر يخطئون كما يصيبون، وأحيانا يقترفون الخطايا. لكن ذلك لا يقلل من شأن منجزهم الإبداعي في النهاية.
خلال الأسبوع الماضي، فجر سليم بركات قنبلته عن حياة درويش الخاصة، والتي سلطت عليه الأضواء هو قبل درويش، لكنها، في نهاية الأمر، أضواء مذمومة، ولا يمكن أن يستسيغها سوى المرضى أو ذوو الأغراض المبيتة الذين تمنوا لو عرفوا «سرا» كهذا منذ عقود. هي أضواء مذمومة بالتأكيد، فالغاية في مفهوم الإنسانيين لا يمكن لها أن تبرر الوسيلة.
ومع ذلك، فالفريقان اللذان ظهرا بقوة في التصدي لقصة سليم بركات لم يتصفا بالموضوعية اللازمة في التناول، فجل ما قرأته كان يندرج تحت لافتتين واضحتين؛ فريق يمعن في تقديس درويش، وفريق آخر يمعن في شيطنته، وكأنما المطلوب تشكيل صورة قصووية لا تدانيها صفات العيب أو المثالية.
السلوك البشري لا يمكن تأطيره ضمن هذا المنهج الصارم، ودرويش، ورغم عدم ثبوت مصداقية القصة، إنسان أولا وأخيرا، ويجوز عليه الخطأ كما الصواب.
في زعمي، فإن قصة مثل هذه في حال ثبوت صدقيتها، فإنها لن تستطيع أن تقلل من النبوع الإبداعي العبقري الذي تجلى في أبهى صوره بنصوص الشاعر الراحل، وهو النبوغ الذي خلق له العديد من العداوات التي استمرت حتى بعد وفاته. فالرجل ما يزال حيا في نصوصه التي تتم قراءتها يوميا أكثر من نصوص أولئك الذين ما يزالون على قيد الحياة.
نستطيع أن نهنئ سليم بركات على قنبلته تلك، وأن نقول له إن محمود درويش سيظل أيقونة في عالم الأدب العالمي، وإن ما كشفه، إن كان صحيحا، لن يؤثر على نبوغه ونصوصه الخالدة، فنحن لم ننظر إليه كنموذج نتمثله في حياتنا، بل كشاعر مرهف.. وسيظل كذلك في وجداننا.
نبش قبور الميتين كانت مهمة حصرية موكولة للكاتب جهاد فاضل، ولكن يبدو أن المهمة انتقلت اليوم لبركات الذي أبدع في استغلالها، وهو ما يحيلنا إلى أمر أخلاقي يطرحه سؤال كبير: هل يجوز للأصدقاء المتاجرة بأسرار أصدقائهم التي وثقوا في إيداعها لديهم، خصوصا عندما يكون الموت قد غيب أصحاب الأسرار؟!!
نسأل هذا السؤال، ونحن ما نزال نمارس شكا كبيرا في القصة برمتها. لكن، وحتى لو كانت صحيحة، ينبغي لنا أن نطرح هذا السؤال الأخلاقي على وعينا، فلربما إجابة هذا السؤال هي ما سيوجه الكتابات المستقبلية عن «عاصفة بركات»، وفي خلدنا أن حياة الأديب لا ينبغي أن تكون أخلاقية ومثالية جميعها، أما أسرار الأصدقاء، فهذا أمر آخر، إذ ينبغي أن نمنحها القداسة المطلوبة، وأن ندفنها في مكان لا تطاوله يد!!