عالم ما بعد "داعش"

د. سعود الشرفات*

يتغير العالم اليوم بتسارع مذهل، يفوق قدرتنا كبشر على ضبط إيقاعه اليومي، والتعاطي مع حجم شروره ومخاطره المرعبة التي يصعب السيطرة عليها أو التنبؤ بها. والأهم من ذلك أن مقاربات فترة الحرب الباردة وما قبلها، لم تعد تصلح لتحليل ظواهر كبيرة كالعولمة والتطرف الديني، والإرهاب العالمي، والسياسة العالمية اليومية في عالم مترابط الآن.اضافة اعلان
رغم ذلك، ما يزال كثير من المحللين والخبراء والأكاديميين والساسة؛ كما الكثير من الأجهزة الاستخبارية في العالم، يدرسون تنظيم "داعش" الذي يعتبر ثمرة عفنة للعولمة، وكأنه حزب ينطبق عليه ما ينطبق على الأحزاب التقليدية، مثل الأحزاب الشيوعية أو القومية أو الإخوان المسلمين! حزب يتوفر على بنية هيكلية وتراتبية تنظيمية (مكتب سياسي، ولجنة مركزية، ومناطق وخلايا، وعلاقات خيطّية)، ويركز على الاجتماعات السرية واللقاءات الأسبوعية وتثقيف الأعضاء، وتوزيع الكتيبات والكراسات رديئة الطباعة والتصوير، والتزام ونقاء الأعضاء الفكري والأيديولوجي أو الديني.
ولذلك، استعصى على هؤلاء المحللين والسياسيين فهم العمليات الإرهابية الأخيرة لتنظيم "داعش"، لأن جل تركيزهم وجدالهم كان القول: هؤلاء الإرهابيون الذين نفذوا العمليات الإرهابية في بلجيكا وفرنسا، خاصة عملية نيس في 15 تموز (يوليو) الحالي، والتي استخدم فيها أسلوب دهس المواطنين العزل، وقُتل فيها 84 شخص، لم يكونوا ملتزمين دينيا، ولم تكن لديهم ملفات لدى الأجهزة الأمنية!
وباختصار؛ لم يعد مهما بالنسبة لتنظيم إرهابي ومنتج عصري للعولمة مثل "داعش"، الملف الشخصي السابق للأفراد -أو "جنود الخلافة"!- أو التزامهم الديني أو التنظيمي. إنما المهم تنفيذ العمل الإرهابي وإحداث الرعب والصدمة، لا بل خلق حالة من الحيرة والارتباك والجدل في الأوساط السياسية والمجتمع.
وتنتشر عقب كل عملية إرهابية ينفذها "داعش" حمّى التحليلات والجدل والمناظرات التي تغلب عليها السطحية والاستعجال والتحليل الرغائبي الوصفي؛ إذ يتحول الكثير من المحللين على شاشات المحطات التلفزيونية إلى مراسلين حربيين، يبذلون جهودا جبارة في وصف ساحات المعارك كمتابعين للمشهد فقط، من دون إضافة تذكر في محاولة فهم ودراسة وتحليل الظاهرة.
الخطورة في الأمر على المدى الطويل، هي استغلال الحالة العامة من الدهشة والاستغراب والسذاجة عند وصف المنفذين لأعمال الإرهاب لدى "داعش" بأنهم كانوا "غير ملتزمين دينيا.. يعاقرون الخمر ويتعاطون المخدرات والدعارة والسلب والنهب والسطو المسلح والسرقة.. ويعانون من مشاكل نفسية؛ فكيف فعلوا ذلك، ومتى تطرفوا دينيا، ومتى التحقوا بداعش؟"، فهذه أسميها أسئلة السذاجة القاتلة.
وخطورة هذا التوصيف، الذي يندفع الكثير من المتابعين من الأطياف كافة للتأكيد عليه، خاصة في وسائل الإعلام، يأتي من أنه سيؤدي في النهاية إلى توسيع دائرة الاستهداف والملاحقة والتضييق لكل من يحمل صفة مسلم. ذلك أن الكل الآن موضع شبهة؛ فلا يهم مدى التزام الفرد المسلم أو تطرفه الظاهر والمعروف لدى جيرانه ومحيطه أو لدى الأجهزة الأمنية. لأن لسان حال الآخر (الأوروبي أو الأميركي وغيرهما) سيقول، ببساطة متناهية: عدم التزامك الديني كمسلم لا يعني أنك لن تفجر نفسك في منزلي، أو تدهسني بسيارتك في منتصف الظهيرة!
والواقع أنه كلما توسعت وتعمقت سيرورة العولمة، تعمق التغير في النظام العالمي الذي نعرفه حاليا، وتغيرت كذلك كثير من الفرضيات والمسلمّات التي تحكم السياسة العالمية، كما تغيرت مقاربات دراسة العولمة والإرهاب والتطرف ومغادرة "الحكمة التقليدية" التي أصبحت من مخلفات الحرب الباردة. فلم يعد هناك أهمية لوجود ملفات معدة وجاهزة للإرهابيين، أو بناء هرمي للتنظيمات الإرهابية، والاجتماعات السرية والخلايا والعلاقات الخيطية، أو التثقيف والنقاء الفكري والأيديولوجي والالتزام الديني.
إنّ التجارب الأخيرة لعمليات "داعش"، خاصة في فرنسا وبلجيكا، تؤكد -من وجهة نظري- أنه لم يعد مهما أن تكون ملتزما دينيا حتى تنفذ عملا إرهابيا باسم "داعش"؛ فالفكرة العولمّية تكفي.
هذا يعني أنه كلما تماهى واندمج الإرهابيون مع آليات العولمة التكنولوجية، وزادت أهمية الأطراف الفاعلة من غير الدول مثل الجماعات الإرهابية، وسَهُل وقل عدد المنفذين وأصبح بمقدور شخص واحد -ذئب منفرد- تنفيذ أعمال إرهابية واسعة التأثير والانتشار، وتحولت التكنولوجيا إلى بديل للملهم البشري الـذي يتمثل في القائد أو المعلم، وزوّدت المتطرفين بالعون والخبرة والتوجيه وكيفية صناعة أدوات الإرهاب المدمرة؛ أصبحت جهود مكافحة الإرهاب الدولية والعالمية عملا مضنياً وسباقاً محموما تتفوق فيه الأطراف الفاعلة من غير الدول (الجماعات الإرهابية) على الدول والتحالفات الدولية مهما كانت واسعة.
وكما سبق أن ذكرت (في مقال سابق)، فقد تحوّل كثير من الأجهزة الأمنية والاستخبارية العالمية المختلفة المكلفة بمكافحة الإرهاب والعمل الوقائي والحيلولة دون تنفيذ الأعمال الإرهابية قبل وقوعها؛ إلى مجرد أجهزة أشبه بدوائر للمطافئ.

*مدير مركز شُرُفات لدراسات العولمة والإرهاب