عالم ما بعد "كورونا"

عادة ما تغير الكوارث التي يمر بها العالم كثيرا من المُسلمات، فيغدو المقبول مُحرماً والمُستحيل ممكناً، حيث تفرض على البشر شروطها القاسية، ولم تشذ الكارثة التي نعيشها من خلال هذا الوباء عن القاعدة فقد بدأنا نشهد تغييرات واسعة في نمط حياتنا الاجتماعي، وأرغمنا على التنازل عن الكثير من المسلمات التي كانت تندرج سابقا تحت عناوين الحرية الشخصية والخصوصية. فها هي الدول الغربية تعود مُجددا الى الإغلاق الكامل أو شبه الكامل حيث يتم تقييد حركة المواطنين في دول تُعد فيها الحرية الشخصية ركيزة من ركائز العقد الاجتماعي، كما قبل الناس كرها أو طوعاً لتعرضهم للمراقبة والمتابعة بواسطة التطبيقات الذكية، وتحت مُسميّات شتى وهذه أمور لم يكن للمواطن الغربي أن يتخيلها قبل سنوات. يرى بعضهم أن هذه الجائحة قد شكلت فرصة سانحة للنظم السياسية لإعادة صياغة الكثير من المبادئ الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الشخصية لصالح تكييفها على مقاس الطبقات السياسية الحاكمة وذلك من خلال وضع الناس أمام الاختيار بين الحرية الشخصية والصحة موحية ضمنيا بعدم امكانية الجمع بينهما. كما عرت الجائحة حجم الهوة بين فئات المجتمع المُختلفة في مجال الصحة، فلم يكن غريبا أن تكون نسبة الوفاة بالفيروس أكبر بين الطبقات المُهمشة وسُكان المدن المُكتظة وبين المهاجرين، فقد ساهمت عقود من التمييز العنصري الذي أصبح متغلغلا في بنية الأنظمة السياسية في معظم الدول في مجالات التعليم وفرص العمل والصحة الى انتاج مجتمعات منعزلة تحكمها قواعد مختلفة ينتشر فيها الفقر والجهل والبطالة وتعاني من تزايد ملحوظ في انتشار الأمراض المزمنة مما أفقدها الثقة في الحكومات المركزية وباتت تميل الى التفسير التآمري لأي قرار تتخذه السلطات. تقف البشرية اليوم على مفترق طرق حيث ستحدد خياراتها في مواجهة الفيروس شكل الحياة التي ستعيشها ، ورغم عدم وجود وصفة جاهزة يُمكن تبنيها من قبل جميع الدول الا أنه لا يمكن لدولة ما أن تنتصر في معركتها مع الفيروس بمعزل عما يدور حولها، فالجوائح تجسد العولمة بمفهومها الحرفي، لذلك لا يُمكن مواجهتها الا بتعزيز قيم التضامن سواء داخل الدولة القطرية أو على مستوى العالم بعيدا عن محاولات النجاة الفردية التي تتبناها مُعظم الدول التي هرعت الى الانكفاء على الذات وأصبحت تكيل الاتهامات لبعضها البعض في محاولة للتنصل من مسؤوليتها عن الفشل الذي ما زلنا نعاني منه في مواجهة الفيروس. بقدر ما تشكل هذه الأزمة من تحد للبشرية فانها توفر فرصة نادرة لإعادة النظر في الكثير من الممارسات والسياسات على مستوى الدول والعالم ، فلا يُمكن الاستمرار في السكوت عن الفجوة الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تتسع بين الدول وحتى في داخل الدولة الواحدة، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة النظر في جميع السياسات التي تؤسس لغياب العدالة لصالح أخرى تعزز قيم المواطنة والثقة بين شرائح المجتمع فمعركتنا مع الفيروس هي معركة وعي بالدرجة الأولى وهذه لا تبنى في يوم وليلة وانما هي عملية تراكمية يتم تعزيزها من خلال السياسات والممارسات. لقد جاء هذا الفيروس ليذكرنا بضعفنا وقلة حيلتنا فرغم الإنجازات الكبيرة التي حققها العلم خلال السنوات الماضية إلا أننا وجدنا أنفسنا ضعفاء ومرتبكين أمام مخلوق متناه في الصغر أعادنا الى أساسيات الصحة العامة وبديهيات أسس العدالة الاجتماعية .اضافة اعلان