أفكار ومواقف

عامل الوطن: الثقافة المجتمعية والخطاب المعلن!

حسنا فعلت بلدية إربد حين أصدرت توضيحا حول الفيديو الذي تم تداوله، ويظهر فيه عامل وطن من ملاكها وقد أجبره مراقب عمال على الدخول في حاوية ليضغط القمامة بقدميه من أجل زيادة استيعابها.
البلدية أكدت أن الأمر مرفوض، وأن رئيس البلدية قرر اتخاذ المقتضى القانوني بحق المراقب وإنزال اقصى العقوبات به، إضافة إلى قرارها بتكريم العامل قريبا.
في ظني أن التعليق الأكثر عمقا جاء على لسان وزير الإدارة المحلية المهندس وليد المصري، حين قال إنه “عندما نفقد الحس بالإنسانية والإنسان لا قيمة لأي إنجاز”. وأضاف “مع علمي بصعوبة جبر خاطر النفس المكسورة بالعقوبات الإدارية إلا أن ما ظهر خلال الفيديو من تصرف لا يوجد له أي مبرر وهو معيب بحقنا جميعاً”، مقدما اعتذاره للعامل، ومشددا على ضرورة تكريمه، ووجوب إيقاع العقوبة بحق مراقب العمال.
تصرف جيد وإنساني من قبل البلدية والوزير، ولكن الأمر يفتح باب الأسئلة عن حجم التجاوزات، التي تصنف على أنها لا إنسانية ولا أخلاقية، بحق فئات كثيرة من المجتمع وأصحاب مهن وأعمال يضعها المجتمع في المرتبة الدنيا من الأعمال، معبرين عن طبقية راسخة في النفوس، حتى لو لم يعترفوا بها علانية.
التصرف الفوقي واللا إنساني الذي أقدم عليه مراقب العمال، هو تجاوز “اعتيادي” يتم بشكل شبه يومي، وربما عشرات المرات، إلا أن كثيرا من الضحايا لا يكونون محظوظين في أن يتم توثيق التجاوزات تجاههم، فتذهب حكاياتهم إلى النسيان.
في أذهاننا وفي خلفياتنا الثقافية والأخلاقية، ثمة مسافة شاسعة نتحرك فيها بحرية كبيرة بعيدا عن خطابنا المعلن. مراقب العمال ليس سوى ضحية لاعتبارات وقيم سائدة في المجتمع، لم تستطع المدنية “الهزيلة” التي حققناها حتى اليوم أن تزيل التشوهات الكبيرة العالقة بها، حتى ونحن نكاد أن ننهي الربع الأول من القرن الواحد والعشرين!
التحولات العديدة التي طرأت داخل المنظومة الثقافية المجتمعية على مدى العقدين الأخيرين، صبت، في معظمها، لمصلحة مزيد من التباين في الطبقات والأعمال والمهن، لتسود حالة من التشوه الحضاري، من خلال “تقديس” رأس المال والوظائف العليا، وبالتالي سيادة نظرة دونية إلى كثير من الأعمال والمهن التي يرون أنها تابعة وتأتي من باب “خدمة” الطبقات العليا والنخب الاجتماعية والاقتصادية.
أزمة المعلمين اليوم، ومحاولة استعادة النظرة المجتمعية المفقودة إلى مكانة المعلم ومهنة التعليم، هي واحدة من تمظهرات خلل المنظومة الثقافية المجتمعية التي أعادت رسم “أولوياتها” و”ولاءاتها” وفقا لما تقتضيه مصالحها مع النخب، وبذلك فقدنا البوصلة الأخلاقية في مسار التحولات السائدة.
في المؤسسات الرسمية والخاصة، تتجلى هذه الثقافة في “الطبقية” الوظيفية من خلال تعامل المسؤولين والمديرين مع من هم أدنى منهم في سلم الوظيفة، وتتجلى “الفوقية” في طبيعة التعالي الذي يمارسه المسؤولون بحق الموظفين، غير مبالين بحقيقة أن كل موظف، مهما كانت طبيعة وظيفته، هو حلقة في سلسلة طويلة تؤدي دورا ما لتحقيق الأهداف العليا التي تضعها المؤسسات والشركات.
دعونا نحاكم مراقب العمال هذا بشيء من الرأفة، فهو ضحية أيضا، مثله في ذلك مثل عامل الوطن الذي لم يكن له حول ولا قوة إلا الانصياع لأوامر مسؤوله المباشر. وإذا أردنا أن نفعل شيئا من الصواب، فلنعمل على إزالة التشوهات التي خلقت مثل هذه الثقافة.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock