عام هجري جديد

d2u4x2xk
d2u4x2xk

د. محمد المجالي

هي الأيام تطوى، والشباب يبلى، والأعمار تفنى، جيل يأتي وآخر يأفل، حياة تتجدد، وأخرى تتبدد، أيام يداولها الله بين الناس، يوم لك ويوم عليك، والوقت حري بأن نستغله فيما هو نافع، فاليوم الذي يذهب لا يعود، وقد قيل: يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.اضافة اعلان
عام هجري جديد يذكرنا بأهمية الوقت، ويذكرنا كذلك بشيء من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وببعض ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من همة ومسؤولية،،
الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك، إن لم تستغله فيما هو خير فاتك وتركك، وعندها لا ينفع الندم، ولكن لا بد من الاعتبار والانتباه وتدارك النفس وإصلاح ما كان من خلل.
مر عام هجري من أعمارنا، وحري بكل واحد منا أن يستعرض عامه ذاك، ماذا فعل فيه، ما الذي أنجزه؟ وما الذي استشعر رضاه فيه؟ وفي الوقت نفسه: ما الذي أخفق فيه حين أضاع الفرص؟ على المستوى الشخصي عبادة وعلما وتطويرا وتثقيفا واكتسابا لمهارات الحياة، وعلى مستوى أمته تفاعلا ودعوة وإصلاحا وبثا للأمل وإنفاقا، فحري بكل عاقل أن يرتب أموره ويحسن التخطيط، فهو أخذ بالأسباب، وبعدها يتوكل على الحي الذي لا يموت، يطلب منه العون، وبعدها فما اختاره الله له، ويسره له هو الخير وإن كان على عكس رغبته، يطمئن لمراده تعالى، ولا يندم أبدا، لأنه أخذ بالأسباب الصحيحة، ولكن لله شأن آخر هو بلا شك خير، وقد قال سبحانه: "وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا".
نتذكر هجرته صلى الله عليه وسلم، وهمّه الأكبر في ترسيخ هذا الدين، يبحث عمن يأويه، حين صده قومه، وهو حال معظم الأنبياء والمرسلين، ولكنها دعوة الله، يريد أن يبلغها وينصرها ويضحي من أجلها، عرض نفسه على القبائل ليحموه، ولكنهم آذوه جميعا، واشتد عليه الأذى، خاصة ما كان من شأن أهل الطائف، حين طردوه وصاحبه زيد بن حارثة، وأدموا قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، ولكن الله لا يترك أولياءه، فبدأت رحلة أخرى بعد طول عناء وابتلاء، فأكرم الله نبيه برحلة الإسراء والمعراج، وبنزول سورة يوسف عليه السلام، وخلاصتها أن مع العسر يسرا، وأنك يا محمد لست وحدك على هذا الطريق، فقد سبقك إخوة لك، صبروا ونصرهم الله، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
وما هي إلا فترة بسيطة حتى كان موسم الحج، وعرض النبي نفسه على القبائل فلم يستمعوا له، والتقى صلى الله عليه وسلم بنفر من الأوس والخزرج، وهم مجاورون لليهود في المدينة، ويعرفون شيئا عن موعد مبعث نبي، فانتبهوا وحدثوا أنفسهم، لعله الرجل الذي توعّدكم به يهود؟ إذ كان اليهود يتوعدون أهل المدينة من الأوس والخزرج بعد ظهور هذا النبي الذي توقعوه منهم، ففي كتبهم ما يشير إلى موعد مبعثه ومكانه وأوصافه، وهذا هو السبب في قدوم اليهود إلى هذه المنطقة وإلا فهي ليست ديارهم أصلا، إنما توقع بل يقين منهم نتيجة غرورهم أن هذا النبي الخاتم سيكون منهم.
عندما استمع الأوس والخزرج لكلام النبي صلى الله عليه وسلم أيقنوا أنه هو الذي تتحدث عنه يهود، فقالوا لأنفسهم: لا تسبقنكم إليه يهود، فكان إيمانهم، وكانت بيعة العقبة الأولى، وبعدها بعام كانت البيعة الثانية وكثر عددهم، ثم مهدت هذه البيعة للهجرة إلى المدينة، فأذن النبي لأتباعه بالهجرة، وكانت هجرته هو مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه حين شاء الله له أن يخرج.
ترك وطنه وقومه من أجل الله، يعلمنا التضحية، إذ الولاء للعقيدة أسمى من الولاء للأرض والعشيرة والأهل، رغم الحب الفطري لها. هاجر وعانى وخطط وأخذ بالأسباب، ليعلمنا أن هذه الحياة بحاجة إلى تنظيم وتخطيط، ولا يجوز أن تكون أمورنا خبط عشواء، أو أن يكون أحدنا مكبا على وجهه، لا يدري أين يسير، فلا بد من وعي وفهم لسنن الحياة، فالله قادر على نقل نبيه مباشرة إلى المدينة، ولكن ليعلمنا كيف ننظم الأمور، توقيتا ومكانا ودليل طريق وتزويدا بالطعام والشراب وتضليلا للأثر، وهكذا، فمن أراد تحقيق غاية ما لا بد من حسن التخطيط لها.
أسس دولة الحق، وآخى بين أهل المدينة، ونظم الحياة حين صيغت وثيقة المدينة، وبنى المسجد، وأسس السوق كي لا يحتكر يهود الشأن الاقتصادي. يعلمنا كيف يكون البناء الروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي معا، وهو أعظم برهان على شمولية هذا الدين، وقدرته على تنظيم الحياة، واستيعاب الآخر حيث وثيقة المدينة، وهو رد على أولئك الذين يظنون الدين قاصرا عن تنظيم الحياة، فيدعون إلى عزله.
مرت الأعوام، وأراد المسلمون زمن الفاروق رضي الله عنه أن يؤرخوا، بُحث الأمر بين الصحابة، واستقر رأيهم على بداية التأريخ من زمن هجرته صلى الله عليه وسلم، لا لشيء إلا لأهمية هذا الحدث في تاريخ المسلمين، فهو نقطة التحول بين المحنة والمنحة، بين الدعوة والدولة التي تمارس تنظيم الحياة مع الدعوة. فالهجرة أمل كل مبتلى، وفأل كل مجتهد، وحين تكون حياتنا لله، فلن يضيع الله من قصده، وسينصره ولو بعد حين.