عبيدو باشا في الأغنية السياسية..نزهة "متعبة" من المتعة وغزارة القول

بيروت  -

 قد تبدو قراءة كتاب عبيدو باشا الجديد (موت مدير مسرح - ذاكرة الاغنية السياسية) شبيهة بنزهة طويلة يختلط فيها الشعور بالمتعة الجمالية بقدر كبير من التعب لسرعة السير ولغزارة ما فيه من قول على أهميتة.

اضافة اعلان


واسلوب عبيدو باشا في الكتابة أسلوب خاص الى درجة بعيدة. فهو يقول الكثير بلمحات وومضات أدبية ويصوغ من الوجداني والواقعي والعلمي -من  الذكريات والمواد التاريخية والقناعات السالفة والمتحولة والراسخة عنده  وعند رفقائه وزملائه وابناء جيله عامة- كتابة نابضة وموحية ممتعة تطل من سطورها وجوه متعددة لاحداث وافكار ومراحل وناس. وقد يدخل احيانا اخرى في تفاصيل يبدو فيها كمن يكتب لقراء يفهمون اشاراته السريعة الى  احداث وآراء شهدها لبنان في سنوات الحرب وقبيلها وبعدها. ولربما كان في  جمال اسلوبه بعض ما يمكن ان يؤخذ عليه اذ يصبح "تصنيف" كتابه صعبا.


   فعبيدو جعل عنوان كتابه -وببعض المكر الفني الموفق- مثل عنوان الرسالة التي يقال انه يمكن ان نقرأ منه محتوياتها اذ وصفه مجازا بأن  "ذاكرة الاغنية السياسية" اي ما تحمله الذاكرة..ذاكرة الكاتب..عن مسيرة هذه الاغنية. هذا الامر يجعله والى حد بعيد يقع في دائرة "الذاتي" وان  جاءت مواد الكتاب القيم و"الرائد" في منزلة بين الذاتي حينا والتأريخ  الفني الموثق توثيقا "مغلفا" بالادبي.


بعض الانطباعات التي تخلقها قراءة الكتاب تذكر بما روي في خمسينيات القرن الماضي عن لقاء قيل انه حصل بين الزعيم الشيوعي السوري خالد بكداش وكان نجما صاعدا في تلك الفترة والدكتور شارل مالك الاكاديمي استاذ  الفلسفة والدبلوماسي وعن نقاش فكري دار بينهما. بعد الاجتماع نقل عن مالك قوله ان بكداش لديه أجوبة عن كل الاسئلة دون استثناء. وكان معجبون بفكر بكداش يوردون هذا القول تدليلا على قدرة الرجل وتفوقه بينما كان المعجبون بمالك والفكر الغربي الليبرالي يروونه كمأخذ على فكر بكداش.


ومن الظلم لعبيدو ولعمله ان نضع بين هاتين النظرتين الشبيهتين بقطبين متباعدين كتابه الجدي والجيد متعدد الالوان والمتميز بروح منفتحة منصفة غالبا لمن وما تناوله بالكلام.


لكن القارىء قد يجد نفسه احيانا ازاء كتاب يتناول الفني الموسيقي والادبي والسياسي والاجتماعي والذكريات والنظريات والاحداث وغير ذلك  يتساءل.. هل حاول عبيدو الاجابة عن كل شيء؟


   صدر الكتاب عن دار الاداب في بيروت في 296 صفحة متوسطة القطع. وقد حمل  الغلاف كلاما يصف الكتاب بحق "هذا النص تأريخ للنشاط الفني-الموسيقي الشامل في زمن الحرب مركزا على دلالات الاغنية السياسية وعلاقتها بالثقافة. وهو يتوجه الى شريحة واسعة من القراء ويشكل شهادة حية من قبل كاتب عاش وعاين وشارك وكان على علاقة بمن وبما يحكي عنه. لذلك يتمتع النص بقدر كبير من الحيوية والعفوية والمتعة."


   واذا خطر في بال احدنا ان يفهم الاغنية السياسية في شكل مبسط  بالقول انها تتناول بالنقد أوضاعا معينة وتدعو او تحرض على تغييرها  فاننا سنصل دون شك الى ان هذه الاغنية قديمة وانها سبقت ما اشار اليه باشا اذ إن الذاكرة الشعبية لا تزال تختزن بعض ما يعود منها الى الحرب العالمية الاولى وويلاتها وظلم حكام تلك الحقبة.. بل الى أبعد من ذلك قليلا اذ عرفت انماط تدخل ضمن هذا التحديد في لبنان وسوريا وبلدان اخرى.


لكن الكاتب يحددها بشكل آخر فيقول "هناك فواصل كبيرة وعميقة نفسية وعملية غلبت تسمية الاغنية السياسية على اية تسمية اخرى. اننا امام أغنية محاربة تريد الاستيلاء على النظام المدني لكي يضحي نظامها. إنها ابنة جماعة منظمة تهدد النظام القائم كما تهدد حراسه.انها ابنة حرب داخلية. لم يفتها وهي تمارس هذا الدور ان تبحث عن التميز والحداثة  والقوة والنوعية والضخامة..." الا اننا اذا عدنا بالذاكرة الى كثير من الاغنيات السياسية في تلك المرحلة نجد ان معظمها ينصب على وصف الآلام والظلم وان التحريض الذي تقوم به هو في غالبه بعيد عن المباشرة وضمني ولا  يصح وصفها بأنها "اغنية محاربة تريد الاستيلاء على النظام المدني" الا اذا كنا لا نصفها هي بل نصف جماعات صدرت هي عنها. وبذا لا يعود ممكنا مثلا استثناء اغنية من ايام الحرب العالمية الاولى. فهي ايضا تصف الظلم وتشحن النفوس نقمة عليه. وواضح من تحديدات مماثلة ان المؤلف يعتبر الاغنية السياسية ذات العلاقة بالحرب الاهلية وما قبلها مثلا نوعا يبدو لديه كأنه منفصل كليا او الى حد ما عن تجارب اخرى في العالم. ويذكر أنه نوع نتج في لبنان على ايدي فنانين يساريين وشيوعيين بشكل خاص.


   وهذا التحديد مستمد عند عبيدو من النماذج اللبنانية. وهو يتحدث عن هذه الاغنية وكأنها بنت نظرية فنية خاصة ومميزة وجديدة لكننا لا نعثر عنده على ما يدعم ذلك بوضوح. وهو يقول مثلا ان رجل فكر يساريا واكاديميا هو الدكتور فواز طرابلسي "لم يفهم تسمية الاغنية السياسية وكذلك لم يفهمها ابراهيم العريس احد صحافيي المرحلة. ولم يفهمها كل من سأل عنها. واللافت ان اصحاب هذه الاغنية عافوا هذه التسمية بل رذلوها ووجدوا فيه لجاما لافاق التجربة. لم تسم الاغنية بالاغنية السياسية لانها صاحبة مضمون سياسي او اغراض سياسية فقط. لم يغلب ذلك في رواج اللون والتسمية على حساب قيمتها الفنية..."


انه يبدو هنا كمن يريد القول ان في استعمال البعض تعبير الاغنية السياسة نوعا من الهبوط بقيمة الاغنية الفنية. وقد يجد القارىء انه لم يفهم ايضا المقصود تماما بالمصطلح.


من نماذج قول الكثير الكثير أحيانا عند عبيدو وان برشاقة واختصار ما يستهل به كتابه. ويبدو الكلام أحيانا في كثرته واختصاره اقرب الى اختصار دراسات متنوعة المجالات -لم تجر او جرت فعلا- والكاتب يتحدث عن نتائجها وان كانت على قدر من الصحة بصورة تجعلها تشبه المسلمات او تجعلها مفهومة لمن يفهمها اصلا.


   يقول بشكل مكثف "بيروت ما قبل الحرب الاهلية اللبنانية: بقي الصراع ثقافيا أو تم ضبطه في إطاره الثقافي ما كبت جماعات وتطلعات ونوازع  ونزاعات. الصراع السلمي على هوية بيروت- لبنان دار في فلك الفرنكوفونية. معارضون لها ومساهمون في انضاج هيئتها في هامش صغير -اعتبر  كبيرا- في علاقة الجماعات هذه بالدولة ومنطقها وموقعها وطموحاتها وأخيلتها  ...ضبط الصراع في اطاره الثقافي أجل اندلاع الصراع في أمدائه المقترحة: النظام الديمقراطي والديمقراطية مع وعي الفرق بين ديمقراطية ونظام  ديمقراطي. ثانيا الهوية وثالثا الحرية. ثلاثة عوامل مكونة من عرائض تاريخية ربطت التعبير بطريقة مظلمة وآسرة في آن وعلى جميع الاصعدة."  تشعر بان كثافة ما يورده عبيدو وكثرته تحتاج الى مجال اوسع فذلك اكثر انصافا لجهد المؤلف وحيويته.