عقد مجتمعي جديد

منذ طاعون عمواس في عهدِ الخليفةِ عمرِ بن الخطابِ، ومروراً بالموتِ الأسودِ في القرنِ الرابعِ عشر في أوروبا، وبالإنفلونزا الأسبانيةِ في بدايةِ القرنِ العشرين، وليسَ انتهاءً بالكوليرا والايدز وسارس وغيرها، هناكَ ثابتٌ واحدٌ في نجاحِ الذين نجوا من هذهِ الأوبئةِ، وهو قدرتهم على التكيفِ، والبدءِ من جديدٍ.اضافة اعلان
وأولُ متطلباتِ التكيفِ هو الاعترافُ بالطارئِ الجديدِ اعترافاً ذهنياً ونفسياً كاملاً وواعياً، فما نحنُ فيهِ ليسَ عطلةً سنويةً أو إجازةً مرضيةً، ولا حتى حالةَ حربٍ مؤقتةٍ أو تهديداً اقتصادياً طارئاً، إنهُ انتقالٌ إلى واقعٍ مختلفٍ، وعالمٍ جديدٍ في معظمِ معطياتهِ ومتطلباتهِ، والاعترافُ الواعي بهذا الطارئِ «الفيروس»، ومقاومتهِ يقتضي التعايشَ مع وجودِهِ، فكورونا وجدَ ليبقى، وحتى بعدَ اكتشافِ المطعومِ، فإنهُ باقٍ وتأثيرهُ على الحياة مستمرٌ، ولكنَ التعايشَ مع وجودِ الفيروسِ لا يعني الاستسلامَ، والخضوعَ لبطشهِ، بل يعني وضعَ أسسٍ ومعاييرَ جديدةٍ للحياةِ مع وجودِ هذا الفيروسِ.
في معرضِ فكرةِ التعايشِ، فإنهُ منَ المبكرِ الوصولُ إلى معتقداتٍ جديدةٍ حولَ الواقعِ الجديدِ، ولعل المنطقي أن نفكرَ ونتساءلَ حولَ هذا الواقع، أكثر من أن نقدمَ رؤىً وإجاباتٍ حاسمةٍ حولهُ، ولذا نؤشرُ في هذه العجالةِ على بعضِ ملامحِ هذا الواقعِ الجديدِ علنا نستعدُ ونتكيفُ معها:
نحتاجُ اعتمادَ إجراءاتِ الوقايةِ الصحيةِ في الحياةِ الشخصيةِ والعامةِ، وتحويلها إلى نمطِ حياةٍ يوميٍ، وليس حملةً صحيةً مؤقتةً، وهذهِ مهمةٌ يجب أن يتولاها دون كللِ الإعلامُ والمساجدُ والكنائسُ والمدارسُ والجامعاتُ.
نحتاجُ أيضاً تعزيزَ البنيةِ التحتيةِ في مجالِ التكنولوجيا ووسائلِ التواصِل الرقمية، فالإنترنت لم يعد ترفاً جانبياً، بل وسيلةً أساسيةً للحياةِ، وهو حقٌ للجميعِ، من واجبِ الدولةِ تأمينهُ بجودةٍ معقولةٍ للجميعِ، كما علينا حمايةُ هذه «الخدمةِ الاستراتيجيةِ»، بما يتطلبهُ ذلك من توفيرِ المعلومةِ الدقيقةِ للمواطنِ من جانب، ووضع قوانينَ صارمة وواضحة تحفظ حق المواطنِ في حرية استخدامه، وبنفسِ الوقت ردعُ من يسيئُ هذا الاستخدام سندًا للقانون، علماً بأن أحد أهم عناصرِ نجاحِ الدولةِ الأردنيةِ في معركتها ضد كورونا، هو تفوقها في وضعِ حلولٍ رقمية سريعة لمتطلباتِ هذه المعركةِ.
نحتاجُ إلى التعاضدِ الاقتصادي والاجتماعي، فقد سقط الربحِ كهدفٍ وحيدٍ للدولِ والمؤسساتِ الاقتصاديةِ؛ ذلك أن الثروة لم تمنع الفيروسَ عن الدولِ الغنيةِ، فقد علم الفيروس البشرية أنها بضعفِ أضعفِ فردٍ فيها، وإن منَعتها تتطلبُ حمايةَ جميعِ أفرادها بنفسِ القدرِ، الأمرُ الذي يقتضي تقاسمَ الربحِ، وتوزيعَ المكتسباتِ الصحيةِ، والتعليميةِ، والثقافيةِ بعدالةٍ على الجميعِ.
كورونا فرصٌ وليست فقط تحدياتٍ، هناكَ فرصٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ متعددة، انخفاضُ أسعارِ النفطِ فرصةٌ، أن نتخلى عن جميعِ العاداتِ الاجتماعيةِ المكلفةِ فرصةٌ، أن نتطلعَ لمنظومةِ مواصلاتٍ تجعلُ استعمالَ السيارةِ الشخصيةِ أمراً ثانويًا فرصةٌ، ترسيخِ ثقافةِ سيادةِ القانونِ، باعتبارِ ذلكَ مصلحةً فرديةً، والانتقال من ثقافةِ الاعتزازِ بتجاوزِه، إلى الاعتزازِ بالخضوعِ لهُ فرصة، وطبعاً بما يتطلبهُ ذلكَ من صدورِ القانونِ عن مؤسساتٍ تمثلُ حقيقةً إرادة المواطنين، أن نعيدَ الاعتبارَ لقطاعِ الزراعةِ والصناعةِ والتجارةِ فرصة، أن نقننَ نفقاتنا بحجمِ ما نستطيعُ، وليسَ بقدر ما توفرهُ لنا البنوكُ من قروضٍ فرصة، وبالحديثِ عن البنوكِ آن الأوان لأن نكسرَ جميعَ أنواعِ الاحتكاراتِ، وأن نعززَ المنافسةَ المشروعةَ، لضمانِ أحسنِ وأرخصِ الخدماتِ للمواطنين.
غايةُ القولِ أن الدخولَ إلى عالمٍ جديدٍ بعد كورونا يحتاجُ إلى ذهنٍ جديد يستعدُ للتحدياتِ، ويستشرفُ الفرصَ، ويحضرُ النفسَ والذات، لأنماطٍ جديدةٍ من السلوك؛ فالعملُ عن بعدٍ مثلا قد يكون ُحلا الآن، ولكنهُ لا يمكنُ أن يكونَ نمطَ حياةٍ، فأمامنا وقتٌ لاكتشافِ طرقٍ تؤمنُ الاجتماعَ الإنسانيَ والسلامَة الصحيَة في نفسِ الوقتِ.
نحنُ على أعتابِ عقدٍ مجتمعيٍ جديدٍ، أساسهُ أن فرصَ نجاتكَ الشخصيةِ تعتمد على نجاةِ الآخرينَ، فقانون الغاب المشهور موضعُ اختبارٍ حقيقيٍ، ما تحتاجه الإنسانية اليوم فهم وقانونٌ جديدٌ يقوم على التعاضدِ الإنسانيِ، فاهم علي جنابك؟!