عقلية الـ57!

استفدتُ أمس من نقاشٍ معمّق جرى بين عبد الإله الخطيب، وزير الخارجية الأسبق، وأعضاء هيئة التدريس في كلية الأمير الحسين بن عبدالله للشؤون الدولية، وجميعهم أساتذة متخصصون في العلوم السياسية.اضافة اعلان
أستأذنت الضيف في اقتباس عبارة له أعجبتني، وأعتقد أنّها مفتاح مهم في التعامل مع الواقع والتحديات والأزمات، إذ قال إن المشكلة أنّ أغلب نخبنا السياسية ما تزال تفكّر في أحسن الأحوال بعقلية الـعام 1957، وأضاف أنّ المشكلة هي أنّنا نسير إلى الأمام وعقولنا وأعيننا مشدودة للوراء.
ما قاله الخطيب يطابق تماماً – من وجهة نظري- مشكلة حقيقية في الأردن، وكمثال واضح على هذه العقلية ذلك الجدل النخبوي والسياسي، الذي انتقل إلى الشارع، عن الدور الإقليمي الأردني، وعن علاقاتنا المتشابكة والمتقاطعة مع دول الجوار، وأخيراً ردود الفعل والمسارات الممكنة والمتاحة للديبلوماسية الأردنية، ردّاً على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
نجد أنفسنا، بصورة عامة، أمام اتجاهين رئيسين؛ الاتجاه الأول يتخيّل الأردن دولة عظمى، يمكن أن تتحكم بالمتغيرات الإقليمية، وقد تفكّر – مثلاً- في أوقات معينة بتحريك الجيش لحل مشكلات داخلية في هذه الدولة أو تلك، أو تهديد دولة أخرى، وكأنّ مفتاح المتغيرات والتحالفات الإقليمية بأيدينا، من السهولة أن ننتقل من هذا الكتف إلى ذلك استراتيجياً!
 أمّا الاتجاه الثاني فهو ذلك الذي يصغّر من قيمة الأردن، وقدراتنا، ويربط استقرارنا السياسي بدور معين، وبالعلاقة مع إسرائيل، أو بتلقي المساعدات نتيجة دور إقليمي معين. ومن هنا وُلدت قصة أنّنا نحن فوق الشجرة في أزمة السفارة الإسرائيلية، أو أنّ دورنا انتهى وبالتالي انتهت المساعدات العربية، وهكذا نجد أنفسنا أمام مقولات مسبقة تعود إلى عقود سابقة، بالرغم من أنّ الزمن والتحديات والصعوبات جميعاً أثبتت بطلانها وسخافتها.
ثمة ثلاث جمل مهمة تتفق تماماً مع روح ما تحدث به الخطيب، أعتقد أنّ النخب الأردنية والتيارات السياسية في الشارع الأردني معنية أن تفهمها جيداً:
الجملة الأولى هي أنّ صمود الأردن وعبوره، أو ما أصبح يسمى بـ"المعجزة الأردنية" هو محصلة معادلة داخلية، وليست خارجية، منذ الخمسينيات عندما كانت هنالك أجندة إقليمية واضحة بالإطاحة بالنظام، إلى أحداث السبعين (عندما طرد الأردن السفير الأميركي المتواطئ مع المنظمات الفدائية، وكانت القراءة الأميركية ترى أنّ الدولة سقطت)، إلى حرب الخليج الأولى 1990، والحصار الذي تعرضنا له، مروراً بأحداث الربيع العربي، والثورات المضادة والحروب الأهلية، التي أطاحت بمفاهيم السيادة والأمن الإقليمي والسلم الوطني في العديد من الدول العريبة.
استقلالنا، صمودنا، عبورنا كل ذلك لم يصنعه عامل خارجي متوهم، بل عامل داخلي بامتياز، وهو مرتبط بالقيادة ومؤسسات الدولة والشعب.
الجملة الثانية أنّ النظام الإقليمي بأسره انهار اليوم، والمفاهيم المرتبطة بالدول وسيادتها وموازين القوى انقلبت، والنظام الإقليمي العربي تفكك، وحدثت تطورات كبيرة، أدخلت مفاهيم الحروب بالوكالة والأهلية والقوى الإقليمية على قلب المنطقة، فمن غير المنطقي أن نبقى مرتبطين بمفاهيم الحرب الباردة والنظام العربي السابق.
هنالك محددات واضحة لرسم أي سياسة خارجية أردنية مرتبطة بتعريف المصالح الاقتصادية، والأمن الوطني، أمّا الأفكار السابقة عن الوحدة العربية والأمن القومي العربي فهي جميلة، لكنّها بعيدة تماماً عن الواقع الإقليمي اليوم!
الجملة الثالثة، وهي كبيرة نختصرها للمساحة، التحدي الحقيقي القادم لنا ليس خارجياً، بل داخلي، مرتبط بمفهوم الدولة نفسه، وسيادة القانون، أولاً، وبالأزمة الاقتصادية ثانياً، وهي تحديات علينا أن نعالجها بأنفسنا اليوم، لكن عبر إدارة سياسية توافقية واسعة، وليس عبر عقلية رسمية منغلقة، فنحن في مرحلة انتقالية تستدعي نقاشاً معمقاً واسعاً، وشراكة في اتخاذ القرار.