عقوق أردني فريد!

في مقدمة كتابه "على جمر الغضا: قراءات في الحكومات الأردنية 1949-1960"، يذكر الأديب والباحث عبدالهادي المدادحة، قصة طريفة دفعته إلى تأليف الكتاب. وهي أنّ "شابا أردنيا كان في الرابعة والعشرين من عمره في العام 2006، خريج إحدى الجامعات الأردنية، والدته كانت تعمل مديرة لمدرسة مؤتة الأساسية للبنات في لواء ماركا بمحافظة العاصمة، وقد فشل في الإجابة الصحيحة على أي من الأسئلة التالية: أين تقع مؤتة؟ ما هي الأطراف التي تحاربت في معركة مؤتة؟ من كان قائد الجيش العربي؟ هل تعرف اسم رئيس الوزراء الأردني؟ هل تعرف من هو رئيس مجلس النواب الأردني؟.. عندها أصابني الفزع، وتذكرت كيف كنا نحن في مثل عمره نناقش الشأن الداخلي والشأن الدولي...".اضافة اعلان
قد تبدو القصة عادية؛ فمن السهولة أن تصطدم كل لحظة بشباب حازوا على أعلى الشهادات العلمية والمستويات الأكاديمية، لكنهم لا يملكون أدنى معرفة بتاريخ بلدهم (الأردن)، ولا المحطات التي مرّ بها. لكن الجديد في كلام المدادحة أنّ هذه "الصدمة" دفعته إلى تأليف "على جمر الغضا". وهو كتاب لا تكمن قيمته في اكتشاف معرفة تاريخية جديدة، أو إضافة جهد بحثي جديد، بل هو يقرّ منذ البداية باعتماده على عدد من المصادر التاريخية المعروفة (كتاب سليمان الموسى، والباشا نذير رشيد، ومقابلة مع علي أبو نوار -وهو قد ألف كتاباً أعمق من تلك المقابلة، يتناول فيها ما حدث في 1957 - وكتاب "الأردن على الحافة" للسفير الأميركي السابق تشارلز جونستون، ومذكرات محمود رياض). إنّما قيمة الكتاب في الطريقة السردية الجميلة المبسّطة التي تناول بها الأحداث الضخمة في عقد الخمسينيات، وإلقاء الضوء على هذه الأحداث التاريخية العاصفة والمفصلية في تاريخ الأردن.
في عقد الخمسينيات؛ قُتل رياض الصلح في الأردن، واستشهد الملك عبدالله الأول في المسجد الأقصى، واعتلى الملك طلال العرش، ثم لأسباب مرضية تنحى وجاء الملك الحسين. ووُجد توفيق أبو الهدى (أعرق رئيس وزراء أردني، شكل الحكومات 12 مرّة) مقتولاً (أو منتحراً!) في منزله العام 1956. كما قُتل رئيس الوزراء الأردني إبراهيم هاشم في أحداث انقلاب بغداد في 14 تموز (يوليو) 1958. واغتيل رئيس الوزراء الأردني هزاع المجالي في مكتبه العام 1960. وفُرضت الإقامة الجبرية على سليمان النابلسي، رئيس الحكومة البرلمانية الحزبية في العام 1957. وهربت القيادات البارزة من الجيش العربي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في العام نفسه، في مقدمتهم رئيس الأركان علي أبو نوار، ثم علي الحياري. ودانت محكمة عسكرية قيادات عسكرية بمحاولة الانقلاب، ودانت محكمة عسكرية مرة أخرى اللواء صادق الشرع (رئيس هيئة الأركان) في محاولة انقلابية.
في عقد الخمسينيات، دخل الأردن الاتحاد العربي مع العراق ردّاً على الجمهورية العربية المتحدة. لكن الاتحاد لم يستمر إلا لأشهر قبل وقوع الانقلاب على الحكم الهاشمي في العراق. وتشكلت حكومة نيابية حزبية أردنية بقيادة النابلسي، وتم تعريب الجيش العربي، وصعد نجم جمال عبدالناصر وأصبح مصدراً للصداع السياسي للأردن.. إلخ.
هذا العقد المتخم بالأحداث والتطورات، والمنعطفات التي مرّ بها الأردن، وكان وقتها الملك الحسين ما يزال في العشرينيات من عمره؛ كيف ندرّسه لأبنائنا في المدارس والجامعات؟ كيف يفهمون تاريخ وطنهم؟ وكيف تنبني الذاكرة لديهم؟ إذا لم نبنِ هذه المعرفة على أساس منهجي وفلسفي صحيح، كيف نتوقع أن يكون فهمهم لانتمائهم ووطنهم وتاريخهم؟ إذا لم يكن لهم قصص وروايات مغروسة في عقولهم ونفوسهم، لن يفهموا وطنهم!
ربما لا يوجد عقوق شبيه بعقوق الأردنيين تجاه تاريخهم ووطنهم وتقصيرهم في بناء الذاكرة الوطنية وصناعة التاريخ وتدوينه!