"عقولنا وقلوبنا" لو استمر تراجع النفط

تكاد تجمع التقارير والتحليلات أنّ جهود منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، لخفض إنتاج أعضائها، على أمل رفع الأسعار، ستصل إلى طريق مسدودة، بل إن أي خفض ربما سيكون على حساب الدول العربية المصدرة للبترول بالدرجة الأولى، ما سيستمر في إيجاد تداعيات اقتصادية وسياسية في المنطقة، وسينعكس على كثير من تفاصيل الحياة اليومية في الشارع العربي. اضافة اعلان
بينما تتفق الدول المصدرة للنفط على أن خفض الإنتاج ضروري للحد من العرض في السوق، فإنّ إيران تطالب بأن يُسمح لها بزيادة حصتها من الإنتاج، لتعويض النقص الذي فرض عليها أثناء الحصار الأميركي-العالمي. بل الأكثر من ذلك، وكما يلاحظ جف كولغان، في مقال في "فورين أفيرز" قبل أيام، فإنّ تراجع وانحسار تنظيم "داعش"، يزيد الضغط على أسعار البترول، لأنّ التنظيم كان يسيطر على مواقع نفطية، وكان يواجه صعوبات في إدارة تلك المواقع بالنجاعة الكافية، وهو ما أدى، عن غير قصد، إلى تقليل الإنتاج وخدم زيادة الأسعار.
إذا كان موضوع أسعار النفط معقدا إلى حد كبير، وفيه الكثير من التناقضات، فمثلا إذا ارتفع سعر النفط سيشجع هذا دولا ومنها الولايات المتحدة على استكشاف مصادرها النفطية والغازية، فيما دول أخرى ستسعى لمصادر بديلة للطاقة، ما يشكل ضغطا على الأسعار مجدداً، فإنّ هناك جانبا آخر لهذا التراجع المستمر في الأسعار، خصوصاً في واقعنا العربي.
لقد صاحب صعود أسعار النفط مطلع هذا القرن، تضخم هائل في الدور السياسي، والإعلامي، والثقافي، لدول الخليج العربية. ولعل نظرة على مراكز الأبحاث العربية، والقوى السياسية، توضح مثالاً على ذلك. فغالبية مراكز الأبحاث العربية، بما فيها القومية واليسارية، تراجعت أو تكاد تقفل لولا دعم دول خليجية، أو لولا اعتماد العاملين فيها على التعاون عن بعد مع المؤسسات الخليجية (باستثناء من يعتمد دعما غربيا). والصحف والتلفزيونات المصرية واللبنانية والعربية غير الخليجية الأخرى، تراجعت كثيراً، لصالح الخليجية منها التي استقطبت العقول والمهنيين فيها، شأنها شأن الجامعات التي استقطب أكاديميين عربا وعالميين. بل وباتت فعاليات السينما والمتاحف، وغير ذلك، مرتبطة بدول الخليج العربية، في تحول مهم لجغرافيا "المركز" العربي المعرفي.
لم تعد أنظمة سورية، وليبيا، والعراق، ومصر، هي التي تدعم فصيلا فلسطينيا هنا أو هناك، كما كان الأمر في الستينيات والسبعينيات، بل بات هناك دعم خليجي متنوع، يصل أفرادا فلسطينيين، كما تدعم هذه الدول سياسيين في دول مختلفة مثل مصر ولبنان وغيرها، ممن يشكلون جزءا أساسياً من المشهد السياسي في بلدانهم.
بل إنّ مراكز أبحاث وأجهزة إعلام ومؤسسات ثقافة خليجية، استقطبت سياسيين وإعلاميين غربيين، بدعوتهم للحضور لفعاليات خليجية، كانت جزءاً من دبلوماسية خليجية غير مباشرة، أو من دبلوماسية شعبية، وهذا سيتراجع الآن. فتقليص الأموال المدفوعة لهذه النشاطات، يقلص أدوات العلاقات العامة الخليجية.
بل إن حتى سعر الشقة في عواصم عربية، مثل عمّان وبيروت، يرتبط بمدى قدرة المغتربين على تحويل وفورات وأموال للاستثمار. فحتى مقاول مباني عليه أن ينتظر ماذا سيحصل اذا استمر التراجع المالي الخليجي.
هذا الواقع يثبت التداخل في العالم الراهن، سواء على مستوى العالم ككل، بين مصدري ومستوردي النفط، وبين الدول الخليجية ومحيطها الإقليمي. وهذا له ارتدادات يمكن رؤيتها على مستوى الحياة اليومية، إعلاميا، وثقافيا، وسياسيا. والأنكى أن دور دول منافسة مثل إيران يمكن أن يحل مكان الخليج العربي.
وكما أن ارتفاع سعر البترول يدفع البعض للاعتماد على الذات، بإنتاج طاقة بديلة، فإنّ انخفاض العائد النفطي، وأثر ذلك على قطاعات التعليم والإعلام والبحث، يمكن أن يؤدي أولا، لوقف ذهاب الأكاديميين والعقول للعمل خارج بلدانهم؛ ويدفع ثانيا، كثيرين للتوقف عن النظر للبحث والأكاديميا باعتبارها صناعة واستثمارا، لصالح العودة للاعتماد على الذات، وللأغراض المعرفية الحقيقية.
من المهم لدول الخليج العربية أن تراجع خططها الذاتية، للتنمية التعليمية والثقافية، وهي خطط واعدة، وضرورية لها ولمحيطها العربي، وكانت مصدر أمل عربي، ويجدر أن تزيد من اعتمادها على الذات. بالمثل، فإنّ الاعتمادية الكبيرة لقطاعات ثقافية وبحثية وتعليمية على الخليج وعلى المانحين الغربيين، بحاجة لمراجعة جذرية.