عكس مسار "بريكست"

أناتول كالتسكي*

لندن - كيف ينبغي أن يستجيب الاتحاد الأوروبي لقرار الناخب البريطاني القاضي بالخروج من الاتحاد؟ فالقادة الأوروبيين يركزون الآن تحديدا على كيفية منع دول أخرى من مغادرة الاتحاد الأوروبي أو اليورو. أهم دولة يجب بقاؤها في المجموعة هي إيطاليا، والتي ستواجه استفتاء في  تشرين الأول (أكتوبر) والذي سوف يمهد الطريق لحركة خمسة نجوم المناهضة لليورو للاستيلاء على السلطة.اضافة اعلان
اٍن خوف أوروبا من العدوى مسألة منطقية، لأن نتائج استفتاء بريكست قد حولت سياسة الاٍتحاد الأوروبي. من قبل، صُنف مؤيدو مغادرة الاٍتحاد الأوروبي أو اليورو بالخياليين أو الفاشيين (أو اليساريين المتطرفين). لكن هذا لم يعد ممكنا.
فقد حولت بريكست "مغادرة" (سواء الاتحاد الأوروبي أو اليورو) إلى خيار واقعي في كل بلد أوروبي. وغداة اعطاء بريطانيا إشعارا رسميا للاتحاد (عن طريق تطبيق أحكام المادة 50 من معاهدة لشبونة)، سيدخل هذا الخيار في صلب النقاش السياسي في كل مكان. وقد كشفت الأبحاث من قبل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية 34 مطلب استفتاء معادي للاتحاد الأوروبي في 18 دولة أخرى. وحتى إذا كانت كل من هذه التحديات ليس لديها سوى فرصة 5 % من النجاح، فان احتمال نجاح استفتاء واحد على الأقل هو 83 %.
هل يمكن وضع مارد التفكك مرة أخرى في قمقمه؟ ان تفكك الاتحاد الأوروبي قد يصعب وقفه بمجرد مغادرة بريطانيا. ولكن بريطانيا لم تنفذ بعد المادة 50. ومن الممكن أن تكون الزجاجة ما تزال مغلقة قبل أن يهرب الجني.
لسوء الحظ، تستخدم أوروبا التهديدات والحوافز الخاطئة لتحقيق ذلك. وتطالب فرنسا بريطانيا بتسريع خروجها. أما ألمانيا فتلعب دور"الشرطي الصالح" من خلال عرضها للوصول إلى السوق الواحدة، ولكن فقط مقابل قوانين الهجرة التي لن تقبلها بريطانيا. وهذه بالضبط لعبة العصي والجزر الخاطئة.
بدلا من تسريع بريكست، يجب أن يحاول زعماء أوروبا تجنب ذلك، عن طريق إقناع الناخبين البريطانيين بتغيير رأيهم. فلا ينبغي أن يكون الهدف هو التفاوض على شروط المغادرة، بل التفاوض على الشروط التي يريدها معظم الناخبين البريطانيين للبقاء في الاتحاد.
ان استراتيجية الاتحاد الأوروبي لتجنب بريكست، بعيدا عن تجاهل الناخبين البريطانيين، من شأنها أن تظهر احتراما حقيقيا للديمقراطية. فجوهر السياسة الديمقراطية يستجيب إلى الاستياء العام من خلال السياسات والأفكار - وبعد ذلك يتم تغيير حكم الناخبين. وبهذه الطريقة تم عكس نتائج استفتاءات عديدة - في فرنسا، أيرلندا، الدنمارك، هولندا، إيطاليا، واليونان، حتى عندما كان يتعلق الأمر بالقضايا الحساسة العميقة، مثل الإجهاض والطلاق.
إذا جرب القادة الأوروبيين نفس النهج مع بريطانيا، قد يفاجأون باستجابة مواتية. العديد من الناخبين الذين صوتوا لصالح المغادرة لديهم بالفعل أفكار ثانية، كما أن موقف التفاوض المتصلب لرئيسة الوزراء تيريزا ماي من شأنه أن يسرع هذه العملية بشكل متناقض، لأن الناخبين يواجهون الآن نسخة بريكست أكثر تطرفا بكثير مما وُعدوا به في حملة المغادرة.
وذكرت رئيسة الوزراء ماي بشكل قاطع أنها ستعطي الأولوية القصوى لمراقبة الهجرة وأن النرويج أو سويسرا لن تكون نموذجا لعلاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي. وقد حددت "وزارة بريكست" الجديدة الهدف الرئيسي لبريطانيا بشأن وصولها إلى أوروبا دون دفع رسوم الجمارك واتفاقيات التجارة الحرة مع بقية العالم. وهذا يعني التخلي عن مصالح الخدمات المالية والتجارية في بريطانيا، وذلك لأن الخدمات لا تتأثر بالتسعيرات ويتم استبعادها من معظم اتفاقيات التجارة الحرة.
ونتيجة لذلك، تعاني الحكومة الجديدة من الوهن السياسي، حيث أن معظم الناخبين البريطانيين لا يشاطرونها أولوياتها التفاوضية. وتظهر استطلاعات ما بعد الاستفتاء إعطاء الناخبين الأولوية لولوج السوق الواحدة وليس للقيود المفروضة على الهجرة من خلال نسبة اثنين مقابل واحد أو أكثر.
ومما يزيد الأمور سوءا لرئيسة الوزراء ماي، أن الأغلبية البرلمانية الضعيفة تعتمد على أصحاب "البقاء" المستائين. وبما أن الاقتصاد البريطاني سيؤول إلى الركود، مع تدني الصفقات التجارية، وتكاثر العقبات القانونية الدستورية، سيكون من الصعب عليها الحفاظ على الانضباط البرلماني اللازم لتنفيذ بريكست.
ولذلك فإن الاستراتيجية لتجنب بريكست لديها فرصة جيدة للنجاح. كما يمكن للاتحاد الأوروبي تعزيز هذه الاستراتيجية من خلال مراجعة خدعة ماي القائلة "بريكست يعني بريكست." وينبغي أن تعرف ماي أن واحدة من بين النتيجتين ممكنة: إما أن تفقد بريطانيا الوصول للسوق الواحدة وتتفاعل مع أوروبا وحدها وفقا لقواعد منظمة التجارة العالمية، أو تبقى عضوا في الاتحاد الأوروبي، بعد التفاوض على الإصلاحات التي يمكن أن تقنع الناخبين بإعادة النظر في بريكست في الانتخابات العامة أو في استفتاء ثاني.
هذا النهج الثنائي - بشرط أن يقدمه زعماء الاتحاد الاوروبي بمرونة حقيقية في مفاوضات الإصلاح الخاصة بهم - يمكن أن يغير المواقف العامة في بريطانيا ومختلف أنحاء أوروبا. تخيل لو عرض الاتحاد الأوروبي إصلاحات الهجرة البناءة - على سبيل المثال، واستعادة السيطرة الوطنية على مدفوعات الرعاية الاجتماعية لغير المواطنين والسماح "بفرامل الطوارئ" على تحركات السكان المفاجئة - على جميع الأعضاء. مثل هذه الإصلاحات سوف تظهر احترام الاتحاد الأوروبي للديمقراطية في بريطانيا - ويمكن أن يتغلب على التيار الشعبوي المناهض للاتحاد الأوروبي في شمال أوروبا.
وبما أن الاتحاد الأوروبي يزخر بتاريخ طويل من التكيف مع الاستجابة لضغوط سياسية في الدول الأعضاء المهمة، فلماذا لا يتبع هذه الاستراتيجية لمواجهة التهديد الوجودي لبريكست؟
الجواب ليس له أية علاقة بالاحترام المفترض للديمقراطية. ان تصويت بريكست لن يعكس أي انتخابات أو استفتاءات أخرى بعد الآن، شريطة أن يكون الاتحاد الأوروبي على استعداد لإجراء بعض الإصلاحات المتواضعة.
العائق الحقيقي لاقناع بريطانيا بالبقاء في الاتحاد الأوروبي هي بيروقراطية الاتحاد الأوروبي. فالمفوضية الأوروبية، التي كانت مصدرا للإبداع في الاتحاد الأوروبي ، أصبحت مدافعة متعصبة عن القواعد والأنظمة القائمة، ولكن غير منطقية ومدمرة، على أساس أن أي تنازلات سوف تولد المزيد من المطالب. ان تنازلات عن الهجرة لفائدة الناخبين البريطانيين ستلهم دول الجنوب للمطالبة بإجراء إصلاحات مالية ومصرفية، والدول الشرقية ستسعى وراء تغيير الميزانية، وستطالب البلدان التي لا تعتمد اليورو بإنهاء حالة الدرجة الثانية التي يعانون منها.
وتعتقد المفوضية الأوروبية أن مطالب الإصلاح في الاتحاد الأوروبي ستمتد إلى بلدان أخرى غير بريطانيا. ولكن هل هذا سبب لتقاوم أي تغيير؟ هذا النوع من الصلابة قد دمر الاتحاد السوفياتي وكاد أن يهدم الكنيسة الكاثوليكية. وسوف يدمر الاتحاد الأوروبي إذا بقيت البيروقراطية غير قادرة على الإصلاح.
لقد حان الوقت لساسة أوروبا لتجاوز البيروقراطيين وإعادة إنشاء اتحاد أوروبي مرن وديمقراطي قادر على الاستجابة لمواطنيه والتكيف مع العالم المتغير. ان معظم الناخبين البريطانيين سيكونون سعداء للبقاء في هذا النوع من أوروبا.

*كبير الاقتصاديين والرئيس المشارك لكافيكال دراكونوميكس ومؤلف كتاب "الرأسمالية 4.0، ولادة الاقتصاد الجديد".
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.