تبدو جعبة القرن الواحد والعشرين في مطلع عقده الثاني حبلى بانتفاضات الشارع العالمي وحراكاته، التي ما إنْ نستفيق من دهشتنا بواحدة حتى نتفاجأ بأخرى غيرها. وتكاد لا تشذ أي منها عن ذات الأسباب والدوافع، بين اقتصادية تتصل بتوفير أسباب العيش الكريم، وسياسية يحركها توق المجتمعات للمشاركة في صنع حياتها ومستقبل أجيالها. ورغم التداخل بين السياسي والاقتصادي إلاّ أن مجسّات الشارع تستشعر الاقتصادي أولاً، ثم لا تلبث أن تشتبك مع الوجه السياسي للاقتصاد لتبدأ مرحلة مختلفة من الحوار أشد سخونة.
استحقاقات كثيرة في العديد من الدول جرى تأجيل مواجهتها منذ نهايات القرن الماضي، لتكتسب بترحيلها إلى المستقبل طابعاً تراكمياً أبقاها جمراً تحت الرماد، ترفع حرارة الحوار من حولها في أكثر من بلد بدون تمييز بين نام أو متقدم، ديمقراطي، أو غير ديمقراطي مع اختلاف بين مهم وأقل أهمية تحدده نوعية وعمق الاستحقاقات. ولكن التحدي الاقتصادي قاسم مشترك لها جميعاً، وانغلاق الأفق أمام وضع حلول له يحوله إلى تحد سياسي بامتياز، كما حصل حتى الآن في بعض الدول العربية، وكما هو مرشح على ما يبدو للظهور في الدول المتقدمة بما يتجاوز المظاهرات التي تشهدها حالياً.
الدول المتقدمة قطعت شوطاً كبيراً في دمقرطة أنظمة الحكم فيها، لكن ليبرالية الاقتصاد لديها لم تنجح كما نجحت ليبرالية السياسة. ففي حين توقفت ليبرالية السياسة عند حدود البراغماتية، تخطت ليبرالية الاقتصاد تلك الحدود لتستقر في أحضان الميكافيلية تاركة أسواق المال لحريتها المطلقة دونما رقابة من الحكومات. وكان حصادها الأبرز أزمة 2008 المالية ما أدخل اقتصادات العالم في دورة ركود لم تنجح بعد في الإفلات منها، وبات الكثيرون، من بينهم الرئيس أوباما، يرون فيها ما يشبه أزمة الكساد الكبير 1929-1939. حيث قد تشهد دول اليورو إفلاسات بالجملة مرشحة لها حتى الآن اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا.
الدول النامية تواجه بدورها ثنائية مفجعة تجمع بين غياب الديمقراطية وإخفاق التنمية الاقتصادية. الأمر الذي وضع الشارع تحت ضغوط مضاعفة وحرّكهُ بدافع من آثار تلك الثنائية مطالباً بالحرية والتنمية تحت شعار الإصلاح السياسي والاقتصادي، داعياً لمراجعة العقد الاجتماعي وصياغة نظام حكم ديمقراطي تشاركي، وإدارة بديلة للتنمية تتسم بالرشد والشفافية والعدالة.
نذر أزمة الاقتصاد والديمقراطية سرعان ما لاحت نتائجها العاصفة مطلع هذا القرن في بلدان نامية كتونس ومصر واليمن وليبيا وسورية. وما من شك أن التردد في احتواء آثار الأزمة الاقتصادية في الدول المتقدمة سوف يزودها بوقود يكفي لتحولها إلى انتفاضات لا قبل لمخارج الأمان في النظام الديمقراطي بامتصاص ضغوطها وتلافي آثارها ومفاعيلها. فالغرب الحر الذي لا تؤرقه احتمالات شكوى الشارع من نقص في الحريات السياسية، صار هاجسه الدائم القلق المتزايد من انفلات حرية السوق، وخروجها عن إطار السيطرة النظرية والعملية، ما قد يعرض الليبرالية الغربية بمكونيها السياسي والاقتصادي للمحاكمة المباشرة من قبل الشارع وإخضاعها لتغيرات بنيوية جوهرية.
ثورة شباب الغرب نهاية ستينيات القرن الماضي ما تزال حاضرة في ذاكرة العالم. فقد أطاحت بشارل ديغول في فرنسا، وعجلت في هزيمة الولايات المتحدة الأخلاقية ثم العسكرية في فيتنام، وزرعت بذور التمرد لما تبعها من حراكات شبابية لحماية البيئة ومناهضة الرأسمالية المتوحشة وشركاتها العابرة للحدود. وتدخل الأزمة المالية والاقتصادية الحالية لتقدم لتلك الحراكات ذخيرة لا تنضب. ما يشي ببدايات تفتح ربيع عالمي على وقع حراكات شعبية سلمية الوسائل، إنسانية الجوهر، انطلقت في الشرق الأوسط ولم تلبث أن انتقلت إلى شوارع العواصم الأوروبية. وهي تجد صدى لها اليوم في كبرى المدن الأميركية، حتى لكأن الجميع على الطريق إلى ربيع عالمي.