..على ورق أصفر

وهبني الله من نعمه الكثيرة، نعمة النسيان، فقط. أذهبُ في الصباح مع بدء سريان الحياة في المدينة، إلى “المول” لشراء الأشياء الضرورية، فأنساها وأبتاع الأشياء غير الضرورية. في اليوم التالي أُبدي حرصاً أكبر، فأكتب على ورقة الملاحظة الصفراء باللون الأخضر غير الملتبس، الأشياء الضرورية، وهناك في “المول”، مع مثابرة الحياة على السير في المدينة، أكتشف أنّي نسيتُ ورقة الملاحظة هناك في زاوية البيت، فأشتري الأشياء غير الضرورية. في اليوم الثالث، وكانت الحياة قد وصلت كلّ أطراف المدينة، أبديتُ أحرصاً أكبر على أن أكون أكثر نباهة، فكتبتُ الأشياء على كفّي باللون الأسود غير الملتبس، وفي “المول” اكتشفتُ أنّي كتبتُ الأشياء غير الضرورية.اضافة اعلان
***
طلبتْ منّي بأدب الغرباء سيجارة. أعطيتُها بلا تردُّدٍ السيجارة الأخيرة التي في علبتي. أشعلتُها بالعود الأخير، وبمحاولة واحدة شديدة الحذر. انتظرتُ بحرص مشدود حتى أخرجت الهواء الرماديّ من فمها. طلبتْ منّي حكاية مسلية، حتى تنتهي من تدخين السيجارة، وأخبرَتْني أنّها لا تحبُّ الاستعجال في حرق التبغ، وقالت شيئاً مفيداً عن لذّة البطء. رويتُ لها ملخّصاً غير أمين لرواية “الحُبِّ في المنفى”. نزلَ مطرٌ خريفي لم يكن مدرجاً على أجندة النهار، فطلبتْ أن أنتظر معها تحت آرمة الصيدليّة، حتى يتوقف المطر، وتجف الأرض، وسألتني عن الحبِّ. قلتُ لها بثقة الراوي العليم: لا شيء سوى مطر يجمعُ رجلاً بامرأة تحت آرمة في المنفى.
***
أحرص على مشاهدة نشرة الأخبار، لا لأعدَّ القتلى وأقارنهم بمن يبدون أحياء، ولا كي أنتظر رأي الأمين العام في الشؤون الخاصة، أو حتى لأراقبَ حركة الصواريخ العبثيّة بين القارّات. أحرص على مشاهدة نشرة الأخبار فقظ لتخاطبني المذيعة ذات الشفتين الحارّتين دون سائر المشاهدين “عزيزي المشاهد”، وتلقي وهي تنظر إليّ تماماً، تحيّة المساء غير منقوصة، وتودّعني في نهاية النشرة المضطربة بابتسامة هادئة، أراها مع غمزة مكشوفة، فأرتدي ملابسي، وأخرجُ إلى محيط القناة، أدورُ بسيّارتي، بانتظار أن تخرج. هذه هي، بفستانها الزمرّدي، أترجّلُ نحوها، أردُّ لها تحية المساء، والابتسامة، ثمّ الغمزة. تنظر إليّ بإنكار، كأنّها لم تكن تشاهدني قبل قليل، وتسألني بالنبرة التلفزيونية: كأنّكَ تبدو حياً؟!
***
دخلتُ إلى صالة السينما في منتصف الأحداث. سألتُ جاري السعيد عن بداية القصة، فأوجز خطوطها المتشعبة في أربع كلمات: “كما يحدثُ في الخارج”. مرّت الأحداث بتشويق، ومات أبطال ثانويون، وجاء جيل جديد من أبطال آخرين مستعدين للموت من أجل أن تكون الأحداث مشوّقة أكثر، وقابلة للتطوّر. ضجرتْ. فقد كنتُ أستبق الأحداث، وأتوقعها قبل حدوثها، فلم تعد القصة مسلية، حتى البطلة التي فتنتُ بها قتلها المخرجُ المتسلّط في حادث سير تافه. أردتُ الخروج من الصالة، فأوقفني رجلُ الأمن الخاص، وأبلغني بضرورة العودة إلى مقعدي بانتظار مصيري. “أي مصير؟” سألته. “الذي اختاره المخرج” أجاب، وصرَفَني بكف نزقة. جلستُ مع الجمهور، والطيرُ على رؤوسنا، كأننا نخشى مرور “الطاعون”.