عندما تَسقُط الجدران

الطبقة الوسطى تحتمي خلف الجدران والأسلاك في جنوب إفريقيا - (أرشيفية)
الطبقة الوسطى تحتمي خلف الجدران والأسلاك في جنوب إفريقيا - (أرشيفية)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

إيزيبيوس ماكيسر * – (نيويورك تايمز) 21/11/2011اضافة اعلان
جوهانسبرغ- أجلس الآن أمام مدخل شقتي الجديدة المكونة من طابقين في حي ساندتون الراقي شمال جوهانسبرغ، وأتأمل بإعجاب أحواض الزهور الملونة المزروعة على عتبة البيت. ثمة امرأتان في الستينيات، تمشيان دائرتين حول مجمع المساكن عدة مرات. وفي كل مرة تمران فيها، ألاحظ العرق الذي يسحّ بتزايد على جبهتيهما، في دليل على جهدهما المثير للإعجاب من أجل المحافظة على لياقتهما. وتبدوان وكأنهما تتدربان لخوض سباق، في استعداد كامل بالأحذية الرياضية، ولفافات امتصاص العرق على المعاصم.
بعد بضع دقائق، يمر أب وابنه ذاهبين في نزهة، يداهما متشابكتان، ويبدوان وأنهما يستمتعان بوضوح بوصول الصيف المُبهج إلى حافة أفريقيا. يبتسمان لدى رؤية اثنين من الصبية الصغار يلهوان بدراجة هوائية. ويتوقف الولدان بعض الوقت ليلوحا لهما بابتسامة بهيجة بالعَدوى. وبمجرد أن يذهب الأب والابن مُبتعدَين عن الأنظار، يتقاتل الولدان على من سيكون عليه الدور ليركب الدراجة.
يبدو هذا وأنه مشهد من نعيم الطبقة المتوسطة. لكنه ليس كذلك. إنه فحسب صورة الحرية المصطنعة التي تشتريها لك الثروة وإمكانية الحصول على القروض في جنوب أفريقيا المثقلة بالجريمة، والغارقة عميقاً في المظالِم وانعدام المساواة. ويتجلى هذا المشهد في مجمع سكني ضخم، مكون من 91 وحدة سكنية شبه متلاصقة، متشابهة المظهر من الطوب الرمادي، ومحاطة بجدار عال في المحيط الخارجي، يعلوه سياج كهربائي، وله مدخل واحد يراقبه حراس الأمن على مدار 24 ساعة في اليوم. ولو كانت السيدتان تمشيان في واحد من العديد من المتنزهات في جوهانسبرج، لكانتا تخاطران باحتمال التعرض للسرقة. ولم يكن الصبيان ليتمكنا من البقاء أحياءً بكل تأكيد على الطرق خارج بواباتنا، نظراً لجنون معظم السائقين هنا؛ وخصوصاً سيارات الأجرة والحافلات الصغيرة التي تتنافس على التقاط الأجرة من الفقراء. ومن المرجح أنهما كانا سيتعرضان للدهس، إلا إذا كانا محظوظين بما يكفي بحيث تُسرق دراجتهما أولاً.
كان أربعة أشخاص قد قتلوا خلال عملية سطو مسلح في العام 2005 في فندق في منطقة ساندتون في جوهانسبرغ. وباستثناء مناطق الحرب، تبقى جنوب أفريقيا واحدة من أكثر البلدان عنفاً في العالم. ولا يتعلق الأمر فقط بحجم الجريمة المقلق في حذ ذاته، وإنما يتعلق أيضاً بالطبيعة المجانية وغير المبررة للعنف الذي يصاحب الكثير من الجرائم التي تُرتكب هنا. وكثيراً ما شكك الخبراء في الإحصاءات الرسمية، التي يشتبهون بأن الحكومة تعمد فيها إلى التقليل من حجم المشكلة. ولكن، وحتى مع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن البيانات الرسمية التي أصدرتها الدولة في أيلول (سبتمبر) تبقى محزنة. فقد تم تسجيل ما يقارب 15.940 جريمة قتل على مدى العام الماضي، في بلد يبلغ عدد سكانه حوالي 49 مليون نسمة. (وفقاً لدراسة حديثة للأمم المتحدة عن جرائم القتل، يبلغ معدل المتوسط العالمي لجرائم القتل نسبة 6.9 لكل 100.000؛ في حين يبلغ المعدل المماثل في جنوب أفريقيا 33.8 لكل 100.000). كما سجلت الإحصاءات أيضاً زيادة في عدد حالات الاغتصاب المبلغ عنها في الفترة نفسها، لترتفع من 55.097 إلى 56.272. وكانت الضحايا من العجائز والفتيات، ومن السود والبيض، ومن الفقراء والأغنياء. إنّ الجريمة في جنوب أفريقيا لا تمارس التمييز.
لكننا نحن الجنوب أفريقيين لم نستوعب تأثير ردود فعلنا على هذا الوباء. هل يمكن أن تستمر الطبقات العليا والمتوسطة في البلاد بالاختفاء في مجتمعات محشورة خلف بوابات مغلقة؟ أي تأثير تمارسه المجتمعات الحتمية خلف البوابات على أولئك الجنوب أفريقيين ممن لا يستطيعون تحمل كلفة العيش فيها؟ إننا بحاجة إلى بذل تفكير أعمق في هذه القضايا. والطبقة الوسطى تدفع ثمناً باهظاً جداً لتحقيق الأمن والسلامة: حرية مصطنعة، وإحساساً زائفاً وهمياً بالمجتمع والاجتماع.
إن السيدتين اللتين تقومان برياضتهما حول المجمع السكني لا تمشيان حقاً بحرية. إنهما تتمرنان فيما يرقى إلى معسكر تدريب خاص. إنهما تتنفسان الهواء من حيّز مغلق. ورغم أن الأب والابن، والامرأتين، يرجح أن يكونوا قد مروا من جانب بعضهم بعضاً مئات المرات من قبل، فإن من غير المرجح أن يكونوا قد تبادلوا أي حديث في أي وقت. إن الجدران العالية لا تستطيع، كمسألة معمارية، أن تفرض أيّ شعور بالاجتماع.
وهكذا، تكون المقايضة التي تدفعها الطبقة المتوسطة التي تعيش في هذا البلد مقابل الإفلات من الجريمة وانعدام المساواة، هي شكل من أشكال الفقر الاجتماعي. لقد أفضى مجتمع غير صحي إلى عزل أسلوب حياة الطبقة المتوسطة غير صحي أصلاً في حد ذاته. صحيح أن العيش في المناطق الحضرية يمكن أن يكون عامل عزل في أي مدينة كبيرة، لكن المجتمعات المحلية المحتجزة خلف البوابات في جنوب أفريقيا تجعل مشكلة العزلة في المناطق الحضرية حادة بشكل خاص.
وقد أدهشني ذلك وأصابني بالذهول مؤخراً عندما وقع صديق أميركي زائر في حب جوهانسبرغ، التي يبقى لديها الكثير لتعرضه بعد كل شيء: إنها أكثر مدن العالم خضرة، وهي بوتقة أفريقية لصهر الثقافات المحلية والإقليمية، وهي القلب الاقتصادي النابض للقارة. وقد لخص لي صديقي أفكاره بالقول: "إن جوهانسبرغ هي مدينة عظيمة. وسوف تكون أفضل عندما تَسقُط فيها الجدران".
*هو محلل سياسي في جامعة ويتس في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: When the Walls Come Down