عندما نغرق بالتضليل والتزييف

تابعت أول من أمس تحقيقا استقصائيا موسعا ومهما لوكالة الأنباء الفرنسية تناول عشرات الأخبار والفيديوهات المفبركة والمزيفة التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الربع الأول من هذا العام، وتعلقت الكثير منها بجائحة كورونا باعتبارها خبر الساعة والأكثر متابعة واهتماما من معظم الناس. اضافة اعلان
طبعا تحقيق الوكالة الفرنسية لم يتطرق للكثير من الأخبار والمنشورات المزيفة التي حفلت بها مواقع التواصل محليا، وبعض هذه الأخبار المزيفة المحلية تم التصدي لها ونفيها لكن الكثير منها يبقى دون تدقيق ومتابعة وتترك آثارها لدى مجاميع المتلقين.
في التدقيق بتحقيق «الفرنسية» يمكن الاجتهاد وتصنيف الأخبار المزيفة لعدة أنواع تبعا للهدف والغاية منها؛ الأول جاء بهدف الإثارة وحصد المشاهدين و»اللايكات» كما يبدو ودون أهداف سياسية أو دعائية، ومنها مثلا خبر عن 500 أسد بشوارع موسكو «لردع الناس عن التجول» ليظهر أن صورة الأسد اليتيم تعود لتسلله وتجوله بمدينة بجنوب أفريقيا العام 2016، ومنها ايضا صورة عشرات أسرة المرضى في «شوارع إيطاليا» ليتبين أنها تعود لإخلاء مستشفى في كرواتيا بعد زلزال سابق، وغيرها العديد.
أما النوع الثاني فيمكن تصنيفه ضمن الغاية السياسية؛ حيث يبدو الهدف السياسي وراءه واضحا، من مثل إعادة تصريحات مفبركة لرئيس الوزراء القطري السابق بمقابلة مع شبكة «بي بي سي» منذ عام 2017 وأعيد تجديد نشرها قبل شهرين رغم نفي «بي بي سي» إجراء المقابلة أصلا! ومثلها أيضا نشر فيديو لكازينو مزعوم ومختلط في السعودية ليتبين أن الصورة تعود للقطات من بطولة شتاء الرياض للعبة «البلوت»، وأيضا فيديو لمقاتل ملثم «من حركة حماس يهدد الجيش المصري» ليتبين أنه فيديو لإرهابي من «داعش» كان تبنى فيه تفجير كنيسة بمصر العام 2016، وغيرها.
النوع الثالث يمكن تصنيفه بالدعائي والذي يلجأ له أشخاص أو ربما مجموعات لغاية أيديولوجية أو تسويق لفكرة حتى لو بالتضليل والفبركة، ومنها انتشار فيديو قيل أنه لصينيين يعتنقون الإسلام بعد انتشار الكورونا، ليتبين أنه لفلبينيين ينطقون بالشهادتين قبل إفطار رمضاني بالسعودية العام الماضي. وأيضا صورة لطفل سوري «نائم بين قبري والديه» ليظهر أنها صورة من عمل فني سعودي، وكذلك صورة «لتوزيع المصاحف في الصين بعد الكورونا» فيما الحقيقة هي لتوزيع الإنجيل ببلدة بالصين عام 2011، إلى فيديو مبهر يدّعي ظهور السيدة مريم العذراء في سماء أرمينيا، ليظهر أن الفيديو ملتقط بالصين أصلا فيما ركبت عليه صورة عجائبية للسيدة مريم.
ظاهرة الأخبار والتسجيلات المزيفة ليست جديدة، وهي ظاهرة في تزايد مع تقدم وتوسع أدوات ومواقع التواصل الاجتماعي أمام تراجع دور وتأثير وسائل الإعلام المؤسسية حيث لا ضوابط ولا معايير مهنية ولا أخلاقية لعملية النشر. وقد يكون الأخطر فيها هو دخول حكومات وجماعات منظمة على خطّها بقوة ضمن ما يسمى بسياسة «إدارة القطيع» أو لاستخدام الأخبار والتسجيلات المفبركة والموجهة في الدعاية السياسية ضد دول أخرى أو ضد المعارضة وضد المنافسين السياسيين.
إن انتشار الكم الكبير من الأخبار المفبركة وبعضها يأخذ مدى واسعا من التأثير والتضليل للوعي العام يعكس في جانب رئيسي منه تراجع الإعلام ومؤسساته المهنية عن دورها المفترض وتقصيرها فيه. صحيح أن وسائل الاعلام المؤسسية لم تلجأ للتعاطي ونشر الكثير من هذه الأخبار المزيفة لعدم استنادها لمصادر واضحة، لكن ذلك لا يعفيها من التقصير لعدم أخذها زمام المبادرة لاستقصاء صحة تلك الأخبار أولا بأول وتأكيدها أو نفيها.
قد يفيد تفعيل الملاحقة القانونية لبعض الأخبار والتسجيلات المزيفة خاصة تلك التي ينتج عنها جرائم وجنح مباشرة في الحد من هذه الظاهرة، لكن الترياق الحقيقي لمواجهتها ومحاصرتها يستدعي تقدم الإعلام المهني لأخذ دوره الحقيقي بالاستقصاء والمتابعة والتعرية لكل هذا الزيف الذي يغرق العالم الافتراضي ويجول ويصول فيه دون حسيب أو رقيب.