أفكار ومواقف

عندما يفقد الإعلام مركزيته

السلطة هي الخاسر الأكبر من غياب مركزية الإعلام. الحكومات حول العالم استخدمت الإعلام على الدوام من أجل تدجين الجماهير، وتعبئة وقتها بخطابها الذي يكون في العادة بلا أي هدف سوى تدعيم روايتها ورؤيتها للأمور.
وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وألمانيا النازية جوزف غوبلز، علم الأهمية الاستثنائية للإعلام، فوضع الاستراتيجيات العديدة لكيفية السيطرة على الجماهير وتنويمها، وصولا إلى استعبادها وجعلها، هي الأخرى، بوقا للرواية الرسمية. الرواية الرسمية غدت، في كثير من الدول حول العالم، أشبه بـ”الصواب السياسي” الذي ولد في حضن الشيوعية، وطورته كنظام أخلاقي صار واحدا من أهم ميزاتها، رغم ما لحق بالمصطلح من “معايير” أيديولوجية جعلته يخرج عن الإطلاق الأولي له.
النظم الديمقراطية وشبه الديمقراطية استخدمت الإعلام للتضليل والسيطرة والاستحواذ كذلك، إلا أنها بذلت جهودا أكبر في هذا السياق، إذ بدت رواياتها أكثر معقولية وعقلانية، مستخدمة “نظرية المؤامرة” في كثير من حملاتها، حيث تلجأ في كثير من الأحيان إلى بناء استراتيجياتها على حوادث وأخبار حقيقية تقوم بتطويرها، ونسج رواية كاملة مضللة تستقطب فيها الجماهير وتسيطر عليها.
وفي ممارسات أقل تأثيرا واتساعا، كانت الأنظمة والحكومات حول العالم تعمد إلى تهميش المعارضة والأصوات التي لا تغني مع الجوقة من خلال التعتيم الإعلامي عليها. لم يكن في مقدور المعارضات الوطنية الوصول إلى الجماهير إلا من خلال بعض المنشورات والصحف الحزبية التي كانت تبدو بلا أي تأثير حقيقي بسبب محدودية انتشارها.
مع انفجار المعرفة والتكنولوجيا، فقد الإعلام مركزيته، وبذلك فقدت السلطة واحدا من أذرعها المهمة التي استخدمتها كعامل للاستقرار الداخلي، وأحيانا كسلاح موجه للخارج.
الأهم أن الجبهات المعارضة لسياسة الحكومات امتلكت منابرها الخاصة التي استطاعت الوصول من خلالها إلى جمهورها، وبدأت تتحلل تدريجيا من سيطرة الحكومات على وسائل الإعلام، وتمتلك حرية الحركة لإيصال وجهة نظرها.
التكتلات السياسية والنقابية، والمعارضون، ومحللو السياسات، والمغامرون السياسيون، وغيرهم، جميعهم أصبحوا يمتلكون قدرة الوصول إلى الجمهور بفرص متساوية. الحكومات، في كثير منها، ظلت على استراتيجياتها القديمة التي لم تطورها بالشكل المطلوب لتنافس في هذا الفضاء الحر، خصوصا مواقع التواصل الاجتماعي التي تشهد عصرا ذهبيا، ومن دون منافسة تذكر من الأشكال التقليدية للإعلام.
ومع ذلك، فقد حاولت حكومات كثيرة أن تطور أدواتها، فذهبت إلى الإعلام الجديد. لكن الفكرة المسبقة عنها جعلتها غير مؤثرة كثيرا فيها، بل أصبح خطابها محلا للهزء والسخرية.
إضراب المعلمين الأخير ما كان لينجح بكل هذا الزخم الجماهيري لولا توفر منابر إعلامية لنقابة المعلمين، تخطت فيها الوسائل التي يمكن للحكومة التأثير عليها. صفحة نائب النقيب ناصر النواصرة على فيسبوك، كانت تستقطب الآلاف خلال المؤتمر الصحفي شبه اليومي الذي كان يعقده لإشهار موقف مجلس النقابة من المبادرات الحكومية، إضافة إلى مئات المشاركات للبث.
هذه الأزمة، كشفت تماما عن التأثير الهائل للإعلام الجديد، وسقوط مركزيته، بعيدا عن التأثيرات الحكومية التي كانت على الدوام تحاول توجيه الأحداث والأخبار من خلال “حراس البوابات”. اليوم سقطت جميع البوابات، وتقاعد الحراس!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock