عن الإنسان الأخير في هذا العالَم

معاذ بني عامر

الإنسان الأخير في هذا الوجود، بدء مُطْلَق، لحظة تأسيس في الرؤية التنظيرية للعالَم الزمكاني، ومدماك أصلي في المعمار الوجودي الكبير. فالنسل الإنساني إذ يدفق من الإنسان الأول دفقاً متواصلاً، عبر انتقال متواصل ومتواتر من أصلاب وأرحام كثيرة وعديدة؛ ويتموضع -كتجلٍّ أخير- في الإنسان الذي يعيش في زمانٍ ما ومكانٍ ما، فإنَّ هذا الإنسان هو إنسان أخير، بصفته مُنيباً عن الكائنات البشرية، وممثلاً شرعياً لها، لغاية إعمار هذا العالَم، واستكمال مشروع الحضارة الإنسانية، والدفع بها قدماً ناحية الأمام. وأي خلل في إدراك هذه القيمة العظيمة، وإنزالها منزلةً أقل مما تستحق، سيورث هذا الإنسان الويل والثبور، ويجعله يدخل في استحقاقات عمودية، يقف فيها الناس على أكتاف بعضهم البعض، لغاية إنجاز مشروع أنانيتهم، لا أن يدخل في استحقاق أفقي، يقف فيه الناس إلى جانب بعضهم البعض، لغاية إنجاز مشروع بناء وإعمار هذا العالم.اضافة اعلان
إن العبقرية الوجودية كما تتجلّى في سياقاتها الفاعلة في الزمن والمكان، ليست في الإنسان الأول أو في إنسان العصور القديمة أو في إنسان العصور الحديثة أو في إنسان الحضارات العليا أو في إنسان الأديان الوضعية أو في إنسان الأديان السماوية، بل هو في الإنسان الآني أياً كانت مواضعاته الزمانية والمكانية، بما يجعل من وجوده وجوداً حيَّاً، فردانياً، مُبدعاً، وتأسيسياً لبناءٍ قادم. وإذا استطاع هذا الإنسان أن يتفهم وجوده كنقطة بدء في هذا العالَم، وأنَّ مصير العالم مرهون بتداعيات هذه اللحظة الحاسمة، وما يمكن أن يقدمه هذا الإنسان من إبداعات لديها القدرة على خدمة المشروع الحضاري، وإبراز معالمه عبر ذاتٍ واحدة، تُعادل الناس جميعاً!
وعليه، فنحنُ -في حال تحوّل الإنسان ليس إلى نقطة بدء فحسب، بل وتفهّمه لهذا البدء على أساس أنه المُحرّك الأكبر لعجلة الوجود الإنساني- أمام إنسان:
1 - فاعل حضارياً.
2 - أفقي إنسانياً.
في حالة الفاعل الحضاري، ينتقل الإنسان من 1 - طور المنفعل بالوجود من جهة، بما يجعله مرهوناً لقوى الطبيعة ونواميسها الضاغطة، ويعمل على تطويع هذه النواميس وذلك بالوصول إلى مصدريتها، والتحكّم بها، بما ينسجم مع طموحات الإنسان الخيرية في هذا العالم. ومن 2 - طور الانفعال بما أنتجه الإنسان الآخر، والاندماج في هذا الانفعال اندماجاً استسلامياً لا يفتأ يُردّد المقولة الفارغة: "أين نحن من هذا الإبداع؟" لأنها تُفرغ الإنسان الآني من محتواه الإبداعي، وتجعل منه محض كائن سلبي لا إرادة له على اجتراح الإبداعات. فهو إذ يتأكّد في نسق الفاعل لا في نسق الانفعال، فإنه يعي القيمة الأنطولوجية لوجوده في هذا العالَم، مع ما يصاحب هذا الوعي من قدرة تخليقية، قادرة على إبراز دور الذات الحيّة، الفردية، وتجلية دورها المحوري والملحمي في هذا العالم.
وفي حالة التمدّد الأفقي، ستبرز القيمة العليا للإنسان، من حيث هو إنسان بالدرجة الأولى له من الحقوق ما لبقية البشر وعليه من الواجبات ما على بقية البشر أيضاً. فلا أفضلية له على أحد، لا على المستوى السيكولوجي، إذ يتم الانحياز للذات الأنانية على حساب الذات الفردانية. ولا على المستوى الاجتماعي، إذ يتم الانحياز لرئيس الوزراء على حساب عامل النظافة. ولا على المستوى الاقتصادي، إذ يتم الانحياز للأغنياء على حساب الفقراء. ولا على المستوى الديني، إذ يتم الانحياز لأتباع الدين الإسلامي على حساب أتباع الديانات الأخرى. ولا على المستوى الطائفي، إذ يتم الانحياز لابتسامة أطفالنا على حساب ابتسامة أطفال الجيران، أو ابتسامة أبناء وطننا على حساب ابتسامة أبناء كينيا. ولا على المستوى الجغرافي، إذ يتم الانحياز لأبناء الوطن العربي على حساب أبناء شبه القارة الهندية. ولا على المستوى الزماني، إذ يتم الانحياز لابناء العصور السابقة بصفتهم كائنات قدسية، على حساب أبناء العصور الحديثة بصفتهم كائنات مدنسة. ولا على المستوى الجنسي، إذ يتم الانحياز للذكور على حساب الإناث. ولا على المستوى القومي إذ يتم الانحياز لأبناء القومية العربية على حساب أبناء القوميات الأخرى. ولا على المستوى الأيديولوجي، إذ يتم الانحياز لأتباع الأيديولوجيا الشيوعية على حساب أتباع الأيديولوجيات الأخرى. بل هو شريك فاعل في تجسيد قيمة الإنسان العليا في هذه الحياة، بما يمنع ليس عن نفسه فقط الظلم والجور، بل وعن الآخرين بصفتهم شركاء له في إنجاز شرطه الوجودي الإعماري، البنائي، التراكمي، الاستئنافي، التواصلي، التشاركي.
إذن، نحن أمام إنسان أخير، لكن المفارقة هي أنّ هذا الإنسان هو بدء مطلق، بحيث يمنح زمانيته صفةً وجودية قصوى، ويخلّق مشروعه الإبداعي في هذه الزمانية، بما يجعل منه أكبر حدث في هذا العالم. فالشعور بالأهمية يتزامن مع القدرة على إضافة جديد، واعتبار أن العالم سينهار في حالة توقّف هذا الإنسان عن العطاء طالما هو متأرجح بين لحظتين فارقتين: 1- لحظة الميلاد، و2 - لحظة الموت.