عن التغيير وفساد العقل الجمعي

في أجواء الانتخابات عموماً، تصبح الكتابة تحت العناوين الأخرى تغريداً خارج السرب. لكن المتمرسين في التحليل يذهبون مذهب أستاذ عقّب على مقال سابق لي بعنوان "حديث غير سياسي"، فأحالني إلى "ماكس فيبر"، وذكّرني بأن مقالتي كانت اشتباكاً بالسياسة أيضاً (بتقريري الابتعاد عنها في العنوان). وكنت ملماً بسوسيولوجيا فيبر السياسية، ومدركاً لحقيقة أن كل موضوع يظل "سياسياً" مهما بدا غير ذلك. كما فتنتني دائماً عبارة العظيم الآخر، الروائي الإنجليزي إي. إم. فورستر: "اربط فحسب..".

اضافة اعلان

ولن أكتب عن الانتخابات، على التخصيص، لأن رؤيتي ستكون خارج الدائرة فيما أحسب، فتسقط في النسيان. لكنني ألاحظ فقط فتور الحماسة، وغياب التساوق عن العملية برمتها، بحيث تبدو معالجتها وأنها أشبه بـ"الترقيع"..

وفي السياق الأعم، أزعم أن الأنماط السلوكية، وتعبيرات الثقافة عن نفسها في شتى الممارسات –ومنها الاقتراع- تتصل حتماً بتكوين العقل الجمعي -صحته أو فساده- وهو الذي يمكن تعريفه، لغاية التبسيط، بأنه اجتماع توجهات الأفراد والهيئات والبِنى في كينونة كُلّيةٍ ذات سمات مخصوصة.

وأقترح أن إدارة العقل الجمعي المعرّف كما ورد، مناطة "موضوعياً" بـ"المؤسسة" أو "السلطة" وأطرافها، وبالمثقفين والأكاديميين شيئاً. وفي هذه التركيبة، يقف المثقفون، جبرياً، أمام الاختيار بين الانحياز إلى السلطة أو إلى ضدها. في الحالة الأولى يندغمون بها. وفي الحالة الثانية، يصعب إفلات المثقف المعارض من رقابة السلطة ومتعلقاتها، التي تحدد مزاج تعبيره وحيّزه ومدى وصوله. ولأن معارضة السلطة تعني، آلياً، مخالفة العقل السائد -صنيعةَ السلطة وأذرعها التي اشتغلت على صياغته كما هو- يجد هذا المثقف نفسه أيضاً في مواجهة سلطة العقل الاجتماعي التابع، بمختلف تعبيراته عن ذاته: العرف، الدين، التقاليد، منظومة الأخلاق، وغير ذلك مما يشكل في مجموعه خطاب السلطة هُوَ هُوَ.

إذا كانت هذه الفرضيات صحيحة، وأعتقد بأنها مدعومة بمنطقها الخاص، فإننا نقف أمام إشكالية "التغيير"، بمعنى استبدال العقل الفاسد المصنوع غير المدرك فساده، بعقل صحي تفاعلي، قادر على الإرسال والاستقبال والابتكار والمناولة، وليس مختزلاً في الاستظهار وهضم الخطاب الجاهز حتى الترهل. ويقتضي إحداث هذا التغيير، إما إرادة السلطة الرسمية وأطرافها له، ورؤية مصلحتها فيه والاشتغال عليه، أو المزيد من انخراط المثقفين والأكاديميين المتنورين في ممارسة المعارضة.

ولسوء الحظ، لا يروق للحكومات المتخندقة في التخلف أن تغامر بإرادة تغيير العقل، اعتقاداً منها –عن خطأ- بأن أحَديّة الخطاب هي الشرط اللازم لبقائها. وفي الوقت نفسه، وتلبية لمطلب التعدد بوصفه اشتراطاً لبقائها الشخصي، تحاول هذه الحكومات الظهور بمظهر "راعي التعددية"، بينما تحرص على إبقاء "التعدد" مجرد تنويعات على الخطاب الأحَديّ نفسه. وتكون نتيجة هذا التناقض: الفوضى والوقوع في مغالطة الاستدلال الدائري.

أما المثقفون والأكاديميون المتنورون القليلون، المحكومون أيضاً بعقدهم الموروثة، فينزعون إلى الدوران في حدود نفس الدائرة المباحة، مثل جاموس الساقية، وبلا محاولة توسيعها. وكثيراً ما يعبر هؤلاء عن رفضهم بلا منهجية، وبفوضوية تصيب العقل الجمعي بالصدمة، فالنفور، بدل الاشتغال في بناء خطاب ذكي يمكن أن يخترق البنى المتصلبة بكياسة.

عن الأكاديميين، ولهبوط ناعم من برج النظرية، سأروي قصة من فترة دراستي الجامعية. ففي درس عن الأدب الأيرلندي، وبعد إلحاح الأستاذ المحاضر في طلب التحاور، شاركت فقلت إن الأدباء الأيرلنديين يستخدمون البقرة رمزاً لأيرلندا، باعتبارها بقرة بريطانيا الحلوب. فأجابني "الأستاذ" بالعربية، وبمنتهى السخرية: "يبدو أنك تقرأ محمد حسنين هيكل كثيراً".! وانصرف عني بازدراء. ولم أعرف ما صلة هيكل وشعرت بالإهانة، فاستأذنت، وقلت: أقرأ هيكل، نعم. وما الضير؟. لكنني استندت في مداخلتي إلى فلان وفلان من النقاد البارزين، وخاصة في تحليل ذكر "البقرة" في السطر الأول من رواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه". فردّ الأستاذ بنظرة أكثر ازدراءً، فقط. وعندما علم عارفوه بالقصة، عنفوني على "تدمير" نفسي "بمعارضته"، ونصحوني بالاعتذار عن "خطئي". ولم أفعل، وجاءني ردّ "السلطة" في ورقة الاختبار التي شطبت معظم إجاباتي المدروسة الزرقاء بـ"التصحيحات" الحمراء.

لإقامة الصلة بين كل ذلك، أعود فأذكّر بعبارة فورستر الذهبية: "اربط فحسب.."، وأرجو أن لا أكون قد كتبتُ بغير كياسة.!

[email protected]