عن الرجل الذي ترجّل

في عمر الثامنة والثمانين ظلّ يمشي مستقيما واثقا منتصبا، سليم الذهن والبدن، مشاركا في شتّى الواجبات، ثم كانت كبوته الأولى والأخيرة، هوى مثل نخلة باسقة مرّة واحدة، دخل المشفى وبالكاد تحمل البقاء قليلا في الفراش.

اضافة اعلان

بقامته الطويلة، وطلّته المحترمة وبدلته الداكنة مع الحطّة البيضاء والعقال، كان نموذجا لوجيه من المجتمع المحلّي، وهو كان كذلك طوال حياته العملية في بلدة المفرق التي ولدت كمجتمع تجاري صغير على مفترق طرق العراق والشام بجانب معسكر شركة البترول العراقية البريطانية ومحطّة سكّة حديد الحجاز ومعسكر الجيش البريطاني ثم الأردني ثم القاعدة الجوّية العسكرية وتلك كانت مقومات نهوض مجتمع متنوع لكن متآلف ومتعلم ومتحضّر لمن يعرف المفرق في بداياتها.

خلال أسابيع المرض كان يضيف في الحديث عن الماضي أشياء أخرى غير تلك التي نسمعها للمرّة الألف عن أصل العائلة وسيرة الآباء والأجداد وخصوصا قصة نشأة فرع العائلة في قرية صمد التي كنّا نعودها كل بضع سنوات لرؤية آثار بيوت الآباء والأجداد المهجورة والمتداعية. وبحسب الحكاية فقد حدث أن أخوين من العشيرة في الحصن نزحا قبل مائة وخمسين عاما الى جبل عجلون بعد حادثة قتل، كما هي العادة، وفي طريق العودة الى الحصن بعد بضع سنوات توقف الركب مع الحلال عند مغارة هائلة من الزمن الروماني قربها بعض البيوت، وكان الربيع عظيما فأغراهما للتوقف الفصل كله ثم حكاية عشق لصبية فإقامة دائمة لينشأ فرع كامل للعشيرة هناك.

عاد يتحدث أكثر عن محطّات حياته هو الشخصية واتفقنا أن يروي أكثر حين يعود صحيحا فلم تسنح الفرصة ولا بدّ أن الكثير غاب معه الى الأبد. تحدث عن رغبته الجامحة وهو فتى لمتابعة التعليم في ثانوية السلط الوحيدة في المملكة ورفض الأخ الأكبر الذي يريده أن يعمل ليساعد العائلة التي فقدت الأب مبكرا. تحدث عن فترة التدريس القصيرة في القرية وكان لديه تلميذات أصبحن جدّات ثم الانخراط بالجيش البريطاني وسلاح الفرسان بما فيه من خيلاء واعجاب طبيب الكتيبة به ليأخذه مساعدا يتقن الانجليزية، وتنقله مغ الكتيبة في محطّاتها اثناء الحرب الثانية وما رآه كمساعد للطبيب من مشاهد مروعة، ثم عن مغامرة استثمار تحويشته في التجارة بعد انتهاء الخدمة العسكرية في المفرق، دكانا بسيطا ثم تجارة "سمانة ومال قبّان" ثم تجارة مواد البناء ثم شركة المقاولات.

وكنت أحيانا أقول له لو كنت من البداية في عمّان فأي فرق أن تكون تاجرا وملاّكا هناك، لكنه لم يكن يظهر غير الرضى والشكر العميق على ما تحقق وذات مرّة على باب البيت في المفرق وكانت السيارات الكثيرة للأبناء تصطف الى جانب بعض آليات الشركة، نظر الي وقال: على باب هذا البيت كانت تصطف دراجه هوائية فقط.

ويكاد تاريخ أبو رياض والمفرق وجيل الرواد معه أن يكون واحدا فقد نشأت البلدة معهم، ومنذ أن وعيت على الدنيا وهو عضو منتخب في مجلس البلدية التي كان مقرها من الطين مثل بيوت المفرق قاطبة. دائما كان هناك انتخابات وتنافس بين كتلتين في إحداهما ابو رياض الذي ظلّ ينجح دائما حتّى عزف ذات مرّة نهائيا بسبب مناكفة قريب في الترشيح ما كان ينبغي أن يحرج وجيه العائلة والعدد المعتبر من ابنائها في المفرق.

ولم نكن نهتم كأولاد بكل هذا كثيرا، ولا ننتبه الى انشغاله الدائم بكل جهد تنموي للبلدة بما في ذلك انشاء ثانوية للبنين حتّى لا يضطر الأولاد للذهاب الى اربد أو نابلس كما حدث مع الابن الأكبر. وكانت الثانوية معلما رائعا بأقواسها الحجرية ومرافقها المعتبرة. كان على درجة من الدقة والحرص والعزيمة ليجمع بنجاح بين الاهتمام بالنشاط العام كأحد وجهاء البلدة وتسيير أمور العائلة والأولاد الذين يحرص على تدريسهم بنفسه الى جانب تسيير عمله التجاري الذي لم يتعرض لأي نكسة رغم أنه في وقت ما كان يصرف على خمسة أبناء في جامعات الخارج في وقت واحد. وسنكتشف لاحقا أنه أورثنا كلا الاهتمامين لكنه قد يكون انفرد بالدقة والحرص والتخطيط، وكان يكتشف أخطاء البنك ويقول حساباتي أصحّ من آلاتكم.

كان هناك دائما عزائم كثيرة منذ وعينا، وأمّ تضطلع بمهمّات مستحيلة لتبييض وجه ربّ البيت الى جانب تربية تسعة أبناء بطريقة محترمة. كان هناك العزومة السنوية لهيئة تدريس الثانوية حيث يتابع الأبناء الدراسة وعزومة سنوية لرموز السلطات المحلية، المتصرف وقائد الشرطة وقائد البادية وقاضي الصلح ورئيس البلدية. وغيرهم ثم العزومة على شرف كل مسؤول جديد يأتي للبلدة ثم المناسبات الكثيرة لوجيه في عشيرته وبلدته.

كان هناك دائما عجقة في البيت الذي يزخر بثمانية أبناء ذكور وبنت واحدة شاء القدر أن تولد عليلة فكانت محطّ اهتمام الجميع حتى وفاتها المأساوية، لكن الضربة الأقسى كانت استشهاد مشيل، ثالث الأبناء الذي نشأ متمردا منذ البداية يخالط "أولاد الشوارع" ويرتاد المقاهي، وهو بعد في الاعدادية فيسبب التعب والغضب لوالده حتى بدأت مواهبه كمثقف و ناشط طلابي تبرز في ثانوية اربد للبنين كاتبا لمجلّة المدرسة وخطيبا وسياسيا في الأيام الساخنة بعد الـ67 يرأس وفدا طلابيا يقابل جلالة الملك فبات محل اعتزاز والده، لكنه بقي دائما سبب قلقه وهو يتابع حياته في الخارج حتى عودته شهيدا في عملية اغتيال آثمة على باب مجلته النشرة في أثينا، ورأيته يواجه الفاجعة برباطة جأش ودون بكاء، لكنه عجوزا بعد نيف وثلاثين عاما لم يحتمل وفاة مشيل الصغير ايضا فبكاه بحرقة بل لام نفسه أن يبقى حيا ويموت حفيده الشاب.

مع ذلك بدا دائما مرحا راضيا شكورا مقبلا على الحياة على ما كابده فيها ومنها. وها هو يترجل ونحن الذين كنّا صناعته الكاملة بالكاد انتبهنا أو فكرنا بذلك. وداعا أبو رياض وداعا أيها الوالد..

[email protected]