عودة الحركات الاجتماعية

مضى ردح من الزمن تراجع فيه الحديث عن الحركات الاجتماعية، ليس في العالم العربي فقط وإنما أيضاً على النطاق العالمي، حيث طغى الحديث عن المجتمع المدني ونسبت اليه قدرات اسطورية على إحداث التغيير في العقود الأخيرة.

اضافة اعلان

لقد ربط صعود المجتمع المدني بعدد من الظواهر العالمية، مثل إنهيار جدار برلين وما تبعه من إنهيار للأنظمة الشمولية في أوروبا الوسطى والشرقية، وانفجار الموجة الثالثة من الثورات الديمقراطية. ومهما تكن صحة العلاقة بين هذه التطورات وبين القدرة التغييرية للمجتمع المدني، فإن الأخير بدا وكأنه قد استوعب في ثناياه الحركات الاجتماعية التقليدية. غير أن الصيغة العامة لنضالات المجتمع المدني تمثلت في التركيز على الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية، أكثر مما هي على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبكلمات أخرى، بات الفرد أو المواطن هو الخلية الأساسية للمجتمع المدني،  في حين ركزت الحركات الاجتماعية على الحقوق الجماعية للفئات والشرائح والطبقات.

لكن السنوات الأخيرة شهدت في المقابل تطورات عدلت من الرهانات المبالغ فيها على المجتمع المدني، وأعادت الاعتبار إلى الحركات الاجتماعية. ويعد "المنتدى الاجتماعي" الوعاء العالمي لمناهضي العولمة الرأسمالية، والذي يضم خليطاً من الحركات والمنظمات والأفراد الذين يسعون إلى عولمة أكثر إنسانية وأكثر عدالة وانصافاً لعالم الجنوب – أقول، يعد هذا المنتدى تعبيراً أممياً من الصعود الجديد للحركات الاجتماعية.

وعلى الرغم من أن العالم العربي لم يلعب دوراً مميزاً في الحركات الإجتماعية المناهضة للعولمة، كما هو حال بلدان أمريكا اللاتينية أو الهند التي احتضنت فعاليات المنتدى الاجتماعي منذ انطلاقته، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية نسخاً محلية واقليمية من المنتديات الاجتماعية، وربما الأهم من ذلك وقوع تصاعد ملموس في نمو الحركات الاجتماعية والمطلبية في العديد من دول المنطقة، بلغت ذروتها في الإضرابات العمالية الطويلة في المحلة الكبرى، إحدى ضواحي القاهرة الصناعية خلال السنة الماضية.

وفي الأردن بدأنا نشهد في السنوات القليلة الأخيرة صعود أنواع وأشكال جديدة من التحركات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدنا في العام الماضي انبثاق شكل جديد من التنظيمات الطلابية اشتهرت باسمها المختصر "ذبحتونا"، واسمها الرسمي هو "لجنة المتابعة للحملة من أجل حقوق الطلبة". وقد سجلت هذه الحركة حضوراً ملموساً في مختلف الجامعات الأردنية، واستأثرت باهتمام الإعلام المحلي، رغم العداء الرسمي لها وأشكال المضايقة والحملات الإعلامية التي تعرضت لها. ويعد لقاء وزير التنمية السياسية السابق د. محمد العوران مع ممثلي "ذبحتونا" في مطلع حزيران 2007 اختراقاً وحيداً لم يتكرر.

ولكن ما يهمنا هنا أن "ذبحتونا" مثلت ممارسة جيدة للابداع والتجديد التنظيمي ظهرت من رحم عدة أحزاب وقوى سياسية واجتماعية عملت على شكل ائتلاف وطني.

وإذا بقينا قليلاً مع الجامعات، فإن الأخيرة شهدت خلال العام الأخير تحركاً غير مسبوق لأساتذة وأكاديميي عدد من الجامعات الرسمية الذين وجهوا مذكرات جماعية تشكو أحوالهم وتعرض مطالبهم. لكن تحرك الأساتذة الجامعيين لم يستمر أو لم يتطور إلى شكل تنظيمي دائم، ولم يعرف بعد ما اذا كانت مطالبهم قد استجيب لها أم لا. وفي كل الأحوال فإن وجود قطاع واسع من الأكاديميين يتراوح ما بين 6-7 آلاف من حملة الدكتوراه في مختلف الجامعات، يطرح موضوعياً مسألة بلورة وعاء تنظيمي لهم، ان لم يكن لدواعي التمثيل والدفاع عن قضاياهم الحياتية فعلى الأقل للدواعي المهنية.

وإلى جانب الطلبة وأساتذة الجامعة تواصلت الأشكال التقليدية من الحركات المطلبية العمالية التي امتدت أفقياً وعمودياً لتشمل مختلف مؤسسات القطاع الخاص والعام. والملفت أن هذه التحركات فاضت عن نطاق الوعاء التنظيمي للحركة العمالية، أي الاتحاد العام لنقابات العمال، اذ باتت تشمل القطاعات التي تفتقر إلى حق التنظيم النقابي، ولا سيما عمال المياومة في الوزارات والبلديات. بل ان النقابات المهنية وجدت نفسها منهمكة بهموم أعضائها من موظفي الحكومة، وباتت قضاياهم تتصدر جدول أعمال المفاوضات مع الحكومة.

إن صعود الحركات الاجتماعية والتحركات المطلبية في الأردن، كما في أي مكان آخر، مرتبط بالتأكيد بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة التي تتعرض لها الطبقات والفئات الفقيرة والوسطى، وهي مرشحة للإزدياد إذا ما استمرت موجات الغلاء والتضخم، وليس في الأمر مفاجأة غير متوقعة. لكن هذا الصعود يدحض الاعتقاد بموت الفعالية الجماهيرية، أو تراجع الاستعداد "الكفاحي" لدى "الجماهير". وهو صعود يشير من ناحية أخرى إلى خطورة غياب الاوعية والقنوات التنظيمية الضرورية أو تآكلها واهترائها، كما هو الحال مع هياكل الحركة العمالية على سبيل المثال لا الحصر.

الحركات الاجتماعية في الأردن قد تنمو في حراكها المطلبي، لكنها بحاجة إلى ما هو أكثر من الوعي الاحتجاجي على الواقع المعيشي للعديد من الفئات الاجتماعية التي تزداد فقراً، إنها بحاجة إلى تطوير موازٍ لفكرها الاجتماعي- الاقتصادي، ولبلورة اطر تنظيمية أرقى لكي تنجح في امتلاك القدرة التفاوضية على تصحيح تأثيرات آليات اقتصاد السوق. وهذا يحيلنا للتساؤل عن موقع ودور القوى السياسية التي طالما افترضت انها حاملة عنصري "الوعي" "والتنظيم" إلى هذه الحركات. لكن هذه القضية تستدعي وقفة أخرى.

[email protected]