عين على الداخل

ما يلفت النظر في حوار جلالة الملك مع شبكة "بي. بي. أس" الأميركية، هو أن جلالته منهمك بشكل كبير في التطورات الإقليمية من حولنا، ومنشغل في الحرب الجارية ضد المنظمات الإرهابية في المنطقة، والتي يلعب الأردن دورا محوريا فيها. وواضح من أجواء المقابلة أن هذه المسائل تسيطر على عقل الملك، وتستحوذ على جل وقته وبرنامج عمله اليومي.اضافة اعلان
وهذا الانشغال أمر مفهوم ومبرر ومشروع؛ فالمخاطر المحيطة بالأردن تفرض على من يجلس على مقعد القيادة أن يتحمل كامل مسؤولياته لصون استقرار وأمن البلاد، والدفاع عن مصالحها في مواجهة التهديدات المحتملة. وهذه كلها في صلب واجبات الملك الدستورية التي يؤديها باقتدار وتميز.
يؤمن بعض المفكرين والساسة أن ليس هناك شيء اسمه سياسة خارجية للدول، وانما مصالح وطنية "داخلية" تملي سياسة خارجية تستجيب لهذه المصالح. إن صح هذا التعريف، فإن الأردن من أفضل الأمثلة عليه.
لقد كان الملك الحسين، رحمه الله، شغوفا بالدبلوماسية والعلاقات الدولية، ولاعبا متميزا على المسرح الأممي، وصاحب دور كبير في كل الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية. وعلى الدوام، كان هذا الدور مسخرا لخدمة المصالح الأردنية كما يفهمها الراحل الكبير.
الملك عبدالله الثاني يخطو على نفس النهج، وقد حقق سمعة دولية وحضورا عالميا في وقت قياسي.
لكن فقط في العام 1989 شعر الحسين أنه أغفل بعض الشيء الوضع الداخلي الذي أناط به للحكومات. أحداث نيسان التي شهدها الأردن في ذلك العام، هي التي نبهت الملك الراحل إلى هذه الحالة الحساسة، بعد أن وصلت المملكة إلى حد الإفلاس، وعمت الاحتجاجات الصاخبة جميع المحافظات.
الوضع في الأردن اليوم مختلف عما كان عليه قبل ربع قرن؛ فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يقال. وقد أسست عودة الحياة البرلمانية في ذلك التاريخ لتحولات مهمة في إدارة الشأن الداخلي.
وفي النصف الثاني من عمر المملكة الرابعة، سعى الملك إلى منح الحكومات الأردنية قدرا واسعا من الصلاحيات فيما يخص الشأن الداخلي. وعرض في أوراقه النقاشية تصورا لأسلوب ممارسة الحكم للمرحلة المقبلة، يقوم على مبدأ تقاسم المسؤوليات؛ بحيث تبقى ملفات الخارجية والأمن والدفاع بيد الملك، بينما تتولى حكومات منبثقة عن البرلمان إدارة الشؤون العامة في البلاد، من دون المس بنصوص الدستور في هذا الباب. لكن التجربة ما تزال في بدايتها، وثمة عوامل عديدة لم تساعد في تطورها بالشكل المأمول، أهمها تركيبة البرلمان الحالي، وهوية الحكومة التي ولدت من رحم تجربة متعثرة للمشاورات البرلمانية.
من الناحية الاقتصادية، الأوضاع لا تقارن بالعام 1989. لكن المؤشرات مقلقة جدا؛ مديونية عالية، ونسب فقر وبطالة مرتفعة، وأوضاع معيشية صعبة. وقد أشار الملك في المقابلة ذاتها إلى أن هذه المشاكل تؤرقه كثيرا.
على المستوى السياسي "الداخلي"، لم يتمكن لا البرلمان ولا الحكومة "المنبثقة" من رحمه من ملء الفراغ، واحتواء فجوة الثقة بين الشارع والمؤسسات. وخلف الستار اللامع، تتفاقم مشاكل عويصة، يُخشى أن تقوض الاستقرار الداخلي.
ما من أحد يريد أن يحمل الملك أكثر من طاقته؛ تكفيه جبهات الصراع المفتوحة من حولنا. لكن لا بد من عين مفتوحة على الداخل، لتبقى أحداث نيسان 1989 جزءا من الماضي.