غزة والاتفاق التركي الإسرائيلي

أعلن الجانبان الإسرائيلي والتركي، هذا الأسبوع، أنّهما بصدد إنهاء المتطلبات الرسمية لإنفاذ اتفاق أنجز بينهما، ينهي ملفات خلافية امتدت سنوات، وتتمحور حول قطاع غزة. وبنود الاتفاق المعلنة هي "حل وسط" بامتياز؛ قدم فيه الطرفان تنازلات مهمة. وبقدر ما، يشكل الاتفاق إنجازا تركيا مهما، بقدر ما يشكل مدخلاً قد يؤدي لإدامة أزمة غزة وتعميقها سياسياً، مع التخفيف من البعد الإنساني للمعاناة، من دون إنهاء أو تقصير هذه المعاناة.اضافة اعلان
بداية، لا بد من تذكر أنّه لا توجد دولة عربية أو غير عربية استطاعت أن تفرض نفسها وتقدم ذاتها، باعتبارها جزءا من الملف الفلسطيني، وخصوصاً الغزيّ، بما يصل لدرجة أن يتفاوض الإسرائيليون معها، كما فعلوا مع الأتراك؛ فتفاوضوا معهم علنا وسراً، بينما يرفضون أي نوع من أي تفاوض حول أي ملف فلسطيني، سوى مع الفلسطينيين، وعلى انفراد، مستغلين تباين موازين القوى لفرض رؤاهم، أو عرقلة التوصل لاتفاقات ذات معنى. وبهذا حقق الأتراك اختراقاً مهماً.
تضمن الاتفاق الأخير استئناف التبادل الدبلوماسي، وتعويضات إسرائيلية على خلفية ضحايا سفينة "مافي مرمرة" التركية، التي كانت في طريقها لمساعدة أهالي غزة، في العام 2010، عندما استشهد عشرة من الأتراك المشاركين في حملة المساعدات. وتراجع الإسرائيليون عن طلب إغلاق مكاتب حركة "حماس" وتواجدها في تركيا، مقابل التعهد بعدم استخدام تركيا قاعدة انطلاق وتخطيط لمهاجمة الإسرائيليين، كما تراجع الأتراك عن طلب فك الحصار عن قطاع غزة، لصالح تسهيلات لإيصال البضائع التركية إلى القطاع عبر "ميناء إسرائيلي" (أسدود)، ومقابل تسهيل مشاريع تركية في الكهرباء والمياه والصحة والبنية التحتية في القطاع.
في هذا الاتفاق شقٌ تركي إسرائيلي إقليمي مهم، وهو الذي يتناول تجديد التعاون الأمني بين الطرفين، ربما يتضمن مشاريع إقليمية للغاز. وهذا الشق من الاتفاق بحاجة للكثير من التحليل والتدقيق. لكن في الشق الفلسطيني تحديداً، فإنّ أهم معاني الاتفاق يمكن رؤيتها في أنّ قطاع غزة قد يشهد حالة انفراج نسبي في أوضاعه الحياتية. وكما يؤكد قادة حركة "حماس" للإعلام، فإنهم كانوا على اطلاع دائم على تطورات التفاوض، بل يوجد شق آخر للمفاوضات يتضمن التوسط في اتفاقية تبادل أسرى بين "حماس" والإسرائيليين، بمشاركة ألمانية أيضاً في هذا الملف. 
لا ينقص هذا الاتفاق فقط مراعاة التوصل لآلية لحل مشكلات قطاع غزة بشكل نهائي بعيد المدى مع الإسرائيليين، بل ولا يبدو ضمن تصور لحل مأزق الانقسام الفلسطيني.
هناك عدد من الأسباب الضاغطة التي فرضت على الأتراك الإسراع في التوصل لاتفاق مع الإسرائيليين، من ضمنها مجموعة الملفات الصعبة التي دخلها الأتراك، بدءا من سورية، وتجدد الملف الكردي العنيف داخلياً، وصولاً للتوتر مع الروس، وبالتالي يبدو الأتراك كمن يريد "تصفير" إحدى المشكلات التي تواجههم وهي في الجانب الإسرائيلي.
لقد كان شعار حزب العدالة والتنمية منذ وصوله للسلطة نحو العام 2002، هو "تصفير" المشاكل مع محيطه الإقليمي، أي احتواء الخلافات وعدم الدخول في أزمات مع الجيران. وكان الإسرائيليون يبدون استثناءً؛ والآن يحصل العكس، يقفل الأتراك هذا الملف لينتبهوا لملفات أخرى.
بذلك، فإنّ هناك "حل" للصراع أو الأزمة التركية مع الإسرائيليين، مقابل مجرد "إدارة" أزمة غزة الفلسطينية.
لا شك أنّ تقليل الضغط الحياتي في أزمة مثل غزة، مرحب به، لكنه قد يعني إذا لم تجر معالجات إضافية، إطالة وقته، وسيعزز أصواتا داخل حركة "حماس" تتعايش مع الحصار وترفض أي تنازل عن السلطة، ويدفعها لتفاهمات سياسية وطنية أوسع؛ يساعدها في هذا الرفض أن الطرف الآخر (فتح) لا يقدم ما يكفي تجاه المصالحة.
لقد قام الأتراك بدور فاعل، ومهم، ولا يمكن رؤية نصف الكأس الفارغ التركي، في الاتفاق الأخير، من دون رؤية الكأس العربية وحتى الكأس الفلسطينية، الفارغتين تماماً تقريباً، من حيث القدرة على فرض تغيير على أرض الواقع، سواء من حيث إجبار الإسرائيليين على التفاوض المثمر، وعلى تغيير سياساتهم، أو من حيث وضع تصور شامل يفرض على الفرقاء الفلسطينيين التوصل لحل ومصالحات جذرية تتعدى إدارة الأزمات.