"فجوة الواقعية" لدى الإخوان

تدور سجالات فكرية وسياسية لافتة حول البرنامج الإصلاحي الذي أعلنته جماعة الإخوان في مصر، باعتباره يمثل التصور السياسي للحزب الذي تسعى الجماعة لتأسيسه. البرنامج تعرّض لانتقادات عنيفة من قبل نخب مثقفة مصرية وعربية، بخاصة ما يتعلّق بالغموض في قضايا الولاية السياسية للمرأة والأقباط، وما أثير كذلك حول "المجلس الأعلى للفقهاء" الذي يدرس مدى مشروعية القوانين، وهو المجلس الذي صوّره الزميل خليل العناني، الخبير في مركز دراسات الأهرام، بالحالة الإيرانية (أي ولاية الفقيه).

اضافة اعلان

على الطرف الآخر من السجال، دافع المفكر الإسلامي المصري المعروف، فهمي هويدي عن البرنامج، حتى عن فكرة "مجلس الفقهاء"، معتبراً أنّ الانتقادات التي وُجّهت للبرنامج مبالغٌ فيها. وأنا شخصياً أتوقف كثيراً عند مرافعة هويدي عن البرنامج، وأتساءل – بالفعل- عن سرّ المنحى الجديد الذي يتخذه في "الدفاع" والتبرير للحركات الإسلامية، مخالفاً الروح السابقة لكتاباته التي كانت تدفع بصورة واضحة نحو التطوير والتجديد والنقد الذاتي!

السجال الإعلامي عَبَر بصورة سريعة إلى "البيت الأخواني"، فظهرت رؤى نقدية تجاه البرنامج تحدث بها صراحة القيادي، جمال حشمت، ما دفع بالمرشد العام، الأستاذ محمد مهدي عاكف، إلى التراجع قليلاً في المسائل الجدلية بإعلانه أنّ هذه صيغة أوّليّة، وسيعاد بحثها مرّة أخرى.

اللافت أنّ الخلاف الإخواني توسّع إلى قضايا أخرى أكثر حساسية، ما يتجّلى في رفض مهدي عاكف لتصريحات سابقة لعصام العريان، عضو المكتب السياسي بالجماعة، والذي صرّح أنّ الإخوان لن يقوموا - في حال وصولهم إلى السلطة- بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ولكن سيعملون على تغيير بعض بنودها.

الدلالة الرئيسة للسجال الإخواني الداخلي تكمن في مؤشرات وملاحظات مهمة؛ أولها أنه يكشف عن الخلافات الداخلية العميقة بين تيار محافظ يمثله المرشد العام وعدد من أعضاء مكتب الإرشاد، ولهم مؤيدون من أبناء وأنصار الإخوان الذين تربّوا على مواقف وأفكار كانوا يعتقدون أنّها تمثل "النظرية السياسية الإسلامية" الصحيحة، وبين تيار جديد من القيادات والأفراد من أبناء العمل السياسي والمدني والمجتمعي الذين يدفعون باتجاه التجديد والتطوير وصولاً إلى رؤية فكرية- سياسية تعرّف بصورة واقعية دقيقة دور الإسلام سياسياً.

في هذا السياق؛ أُعقِّب على دفاع كلٍّ من فهمي هويدي والقيادي الإصلاحي عبد المنعم أبو الفتوح (الذي أدرك تماماً أنه يوازن بين مواقفه التقدميّة وبين الحفاظ على وحدة الجماعة) بأنّ البرنامج تضمّن أفكاراً متقدمة كالقبول بالتعددية وتداول السلطة ومدنية الدولة الإسلامية..الخ. أقول: هذه بلا شك ملامح متميزة تمثل حالة من القطيعة التي قامت بها الحركات الإسلامية مع مواقفها السابقة المترددة تجاه الديمقراطية، لكن ذلك لن يكتمل، ولن يتحقّق أي إنجاز، ما دامت الجماعة تعاني مما يمكن أن نطلق عليه "فجوة الواقعية"؛ تلك الفجوة الفاصلة بين رؤيتهم الفكرية الإصلاحية الجديدة وبين قدرتهم على تقديم برامج واقعية للمشكلات السياسية والاقتصادية التي تعاني منها بلدانهم، وهي البرامج التي تتطلب وتستدعي نقلات نوعية وقفزات فكرية أوسع وأكبر كتلك التي قام بها النموذج الإسلامي التركي الحالي.

البرنامج الإخواني، على خلاف ما يقوله أبو الفتوح، لا يتضمن أية رؤية واقعية للمشكلات المصرية، وبالفعل يغيب عنه المواطن المصري، كما هو حال البرامج الإخوانية في الأردن وغيرها، وعلى خلاف برنامج حزب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب. وأحيل هنا إلى البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية المغربي، وأطالب هويدي وأبو الفتوح بدراسته وقراءته بصورة دقيقة وعميقة، ليجدا أنّ البرنامج يركز بصورة واضحة على المشكل الاقتصادي والاجتماعي، ويحدد بصورة ذكية الدور السياسي والحضاري للإسلام، دون أن يتسمّر عند لغة "المايجيبات" والشعارات، بل لا تعثر على شعار "الحل الإسلامي" خلال فقرات البرنامج كاملاً.

"فجوة الواقعية" تبرز أيضاً من خلال الرد الحاد من فضيلة المرشد على د. عصام العريان، بخصوص معاهدة السلام مع إسرائيل. لكن عاكف لا يجيب في حال وصل الإخوان إلى السلطة: ما هي البدائل التي يقدمونها في مواجهة ضغوطات الواقع ومشكلاته السياسية والاقتصادية؟ فلا جواب في تصريحات عاكف ولا في البرنامج المطروح، باستثناء تنظير حول المواقف المبدئية والأخلاقية!

ثمة جيل قيادي جديد في الإخوان يحمل أفكاراً سياسية عقلانية وواقعية، ويمكن العودة إلى آراء د. عبد المنعم أبو الفتوح، لاحقاً، للكشف عن التطور الكبير في رؤية هذا الجيل. لكن المشكلة أنّ هنالك بالفعل قوى شد عكسي داخلي، تتمثل بالحرس القديم، تُمسك بالإخوان في منتصف الطريق، فلا هم يبقون على "رومانسية الأفكار القديمة" ولا هم يحققون القفزات المطلوبة للمساهمة الحقيقية في مشروع الإصلاح السياسي العام.

الدلالة "الذهبية" في الأزمة الإخوانية الحالية، هي للمراقبين والقوى الإصلاحية والنظم السياسية: أنّ الجماعة كلما اقتربت أكثر من المشاركة السياسية والدخول في مؤسسات الحكم والاندماج في المجتمع المدني قويت شوكة التيار الإصلاحي، وتعرّضت لاختبارات وأسئلة ضاغطة تدفعها إلى إضاءة الكثير من الجوانب الغامضة والمسكوت عنها في خطابها وممارستها، وتعزز من الوجهة الواقعية لديها. 

[email protected]