فرج بيرقدار يروي يومياته في السجن "بعد أن صار الأمس كابوسا"

فرج بيرقدار يروي  يومياته في السجن "بعد أن صار الأمس كابوسا"
فرج بيرقدار يروي يومياته في السجن "بعد أن صار الأمس كابوسا"

 اخلي سبيله في العام 2000 بعد 14 عاما في المعتقلات السورية

 

عمان-الغد-  يكشف الشاعر السوري فرج بيرقدار في كتابه "خيانات اللغة والصمت" الصادرعن دار الجديد في بيروت يومياته في السجن وعلى امتداد 14 عاماً. وبأسماء متعددة حتى اخذ الرقم 13، سجين رقم 13. بيرقدار المولود في العام  1951، خرج  قبل  سبع سنوات من السجن تحت ضغط دوي من المؤسسات العالمية لحقوق الانسان ليروي وبلغة ادبية وبايقاعات خصبة، ما عاناه هناك موثقا هذه المرحلة في مقدمة تقول كل شي وفي نصين من نصوصه حيث ييدأ البوح حار ومنذ المقطع الاول:

اضافة اعلان

لا أمس... ولا هناك؟!

أيها الأصدقاء... ورداً وأجنحة وبعد

ما ستقرؤونه في هذا الكتاب، هو بعض أوراقي التي أترك لكم تقدير كيفية ومتاعب تهريبها من السجن، مكتوبة على ورق السجائر.

في السنوات الأولى من الاعتقال، لم يكن لدينا أقلام ولا أوراق، ولهذا رحت أدرب ذاكرتي للكتابة عليها بشكل مباشر. أليست هي طريقة أجدادنا القدامى قبل انتشار الكتابة؟!

بالطبع كان ذلك ممكناً بالنسبة إلى الشعر... ومع ذلك فإنني حين كثرت القصائد، وخفت ان تخونني ذاكرتي، لجأت إلى بعض الأصدقاء الذين حفظ كل منهم واحدة من تلك القصائد.

فيما بعد ساعدني سجناء كثيرون في نسخ ونقاش وحماية وتهريب كل ما أكتب.

إذن هو عمل جماعي على نحو ما، وان كان مؤسساً بصورة فردية.

 ويتابع بيرقدار " لم أستطع كتابة اسمي الصريح في هذه الأوراق، ولا أسماء الآخرين. كان لذلك مخاطره الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن ليغير كثيراً ذكر الأسماء، ما دامت التجربة واحدة، وما دام المهم هو عرضها أو توثيقها بطريقة ما. لا أدري.. ربما لم يخطر في بالي أصلا ذكر الأسماء، ذلك ان اسماءنا جميعاً كانت مصادرة. لقد أعطونا في البداية بدلاً من اسمائنا أرقاماً... وفي فترة لاحقة أعطونا ألقاباً مستمدة من اشكالنا أو ألوان ملابسنا: أبو البيجامة الكحلية.. أبو القميص البيج... أبو الكنزة الرمادية.. أشقر الخرا... أسود الكلب... رأس الجحش... الممعوط أبو رقبة".

 وتطرق الى الشهور الأولى "تعددت أسمائي، أعني أرقامي، تبعاً للمفردات التي باركتني بكثير من الحنان واللعنات، ولكن الاسم الذي رافقني لزمن أطول، وعرفت به، هو السجين رقم 13. ربما هو رقم مشؤوم في عرف الكثيرين خارجاً.. أما في الداخل، فان جميع الأرقام مشؤومة وكافرة وبنت كلب. حين يعامل السجين بوصفه رقماً حيادياً أو لقباً ازدرائياً، وحين يطغى الرمادي على الزمان والمكان في نسق جهنمي مطفأ وبارد وملول، تأخذ الألوان أبعاداً مختلفة، ويغدو الاحساس بالتمايز، والبحث عن الذات والقبض عليها داخل الزمن، مسألة وجود أو لا وجود".

 ويستذكر بيرقدار إحدى جولات التحقيق " نقلوني الى قسم العناية المشددة في مشفى حرستا العسكري. يومها اضطروا أن يعطوني اسماً حركياً: سيف أحمد ".

 ويضيف " لن تصدقوا كم كانت فرحتي كبيرة بهذا الاسم. لقد كان يكفيني أنه ليس رقماً... ولكن تلك الفرحة تبخرت عندما وضعوني على الحمالة وأدخلوني إلى إحدى الغرف:

- لو مت في هذا المشفى، فلن يكون في قيوده أو سجلاته أي شيء حقيقي يدل علي!!

ما إن همست للطبيب، الذي يفحصني، باسمي الحقيقي وبأني سجين سياسي، حتى تدخل عناصر الدورية لاسكاتي وانذار الطبيب.

نعم... اسمك هو رسمك، ومحوه أو غيابه هو محوك أو غيابك.

حين كان سجان ما يسألني: من أنت؟ كنت اقدم له اسمي بتلقائية.. ولكن مع مرور الزمن وتوالي الصفعات والشتائم والكرابيج، تعلمت أن أقدم نفسي باسم السجين رقم 13.

في الغالب كان السجان المعني يقول: طز.

وللأمانة، قال لي أحد السجانين ذات مرة: تشرفنا.

وفي مرة أخرى، سلخني احدهم بكرباج في منتهى الأمية، وهو يقول: وهذا 14 كرمى لخاطر أمك".

ويتردد بوح بيرقدار المؤلم "أكتب الآن وأنا حر بدرجة ما، وعلى نحو ما، ذلك بفضل حملة دولية بدأها عدد من الأصدقاء، ثم اتسعت لتضم العديد من الأسماء الثقافية والسياسية والمنظمات مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، نادي القلم العالمي، الأمنستي، ومنظمة صحافيين بلا حدود لافتا الى ان السلطات لم ترضخ لضغوط الحملة الا بعد مرور قرابة أربعة عشر عاماً من الاعتقال، مضت ما بين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري، قبل ان يخلى سبيلي في 16/11/200 ".

ويعود بيرقدار الى مرحلة قبل الاعتقال كان "الأمس" بالنسبة الي ذكريات ملونة وراعشة ومتموجة كأجنحة الفراشات، وكان الـ "هناك" غموضاً مثيراً بأسراره وخيالاته وتوقعاته، حيث كل شيء يمكن ان يكون مغامرة مفتوحة على الدهشة، ومغلقة على جمالها المفارق الرهيف. بعد اطلاق السراح يصير "الأمس" كابوساً، والـ "هناك" لعنة، وأنت، من حيث تدري ولا تدري، تحاول أن تمضي بهما حثيثاً إلى ما يشبه النسيان.

 ويقول: "أربعة عشر عاماً وأنا اسمي الـ"هناك" هنا، والـ "هنا" هناك!! ولهذا تعين عليكم، كلما قرأتم "هنا" في أوراق السجن، ان تذهبوا بها الى "هناك". ليس بأساً كبيراً ان تذهبوا، ما دامت عودتكم مضمونة في آخر الكتاب، أو عند أي صفحة ترغبون، وأطمئنكم أنكم لن تشعروا عند عودتكم بما شعرت به، وأنا أسحب أول شهيق من خارج تلك المملكة المسورة بالرعب والموت والجنون. أعني لن تشعروا بصدمة الحرية، ولن تخنقكم الزرقة، ولن تضيع منكم الحدود الفاصلة ما بين الضحك والبكاء".

ويتابع "على كل حال ذهب الأمس ولو مؤقتاً، ولم يعد من هناك. لم يعد اسمي: السجين رقم 13، ولا أبو البيجامة البنية.أنا الآن فرج بيرقدار... شاعر وصحافي سوري من مواليد حمص  1951أبي أحمد، وأمي خدوج. لي خمسة إخوة وثلاث أخوات، بودي لو أكتبهم جميعاً بحبر الضوء.عند اعتقالي تركت ورائي طفلة وحيدة، كانت في الثالثة من العمر، وحين عدت اليها وجدتها على مشارف الجامعة. أمها اعتقلت قبلي بأحد عشر شهراً، وأفرج عنها بعد نحو أربع سنوات، إذ تأكد لهم، من خلال اللجان الطبية والمراقبة الأمنية، أنها لا تمثل ولا تدعي الجنون، بل هي تعاني حقاً حالة انفصام".

 ويعدد بيرقدار اعتقالاته "تعرضت في حياتي لثلاثة اعتقالات: الأول من قبل المخابرات الجوية في العام 1978، وذلك بسبب كراس أدبي شبه دوري، شاركت في إصداره مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق.

الثاني: من قبل مخابرات أمن الدولة، وقد حدث ذلك في اليوم التالي لخروجي من المخابرات الجوية، وكان بتهمة الانتماء لرابطة العمل الشيوعي. والثالث: من قبل المخابرات العسكرية في 31/3/1987 بسبب الانتماء الى حزب العمل الشيوعي".

وبقيت الست السنوات الأولى من اعتقالي مقطوعاً عن العالم الخارجي، محروماً من الزيارات والأقلام والأوراق والراديو".

ويعود بيرقدار الى تداعياته " في العام 1992 قدمت مرافعتي أمام محكمة أمن الدولة العليا، ويبدو أن ترجمة المرافعة ونشرها وإذاعتها لفت انتباه العديد من الشخصيات والمنظمات العالمية الى أن صاحب المرافعة ليس معتقل رأي وحسب، وإنما هو شاعر وصحافي أيضاً".

 ويضيف "فيما بعد لعب نشر مجموعتي الشعرية حمامة مطلقة الجناحين (1997) وترجمتها الى الفرنسية، وحصولها على جائزة هلمان/هامت، 1998 وجائزة الفرع الأميركي لنادي القلم العالمي (1999)، دورا اضافيا في تصعيد الحملة الدولية وصولاً الى الإفراج عني".

يؤكد "في البداية كان لا بد من الشعر كي أعرف نفسي، وأحميها، وأوازنها فوق صراطها الممتد ما بين اللعنة والقداسة ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أدرك أن الشعر بالنسبة الي هو طائر الحرية الأجمل. هو التمرين الأقصى على الحرية، وبصيغة أخرى هو ما ليس قابلاً للأسر. حررته في داخلي، فحررني داخلياً مما يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال".

 كما يؤكد "لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن أن أنهزم... غير أن الشعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عما يراد. ما من شيء يستطيع أن يشد القوس بي الى النهاية أكثر مما يفعل الشعر".

أخيراً... ينبغي لي التنويه الى أنني لست عضواً في اتحاد الكتاب العرب، ولا اتحاد الصحافيين وربما لهذا لم يجد الاتحادان نفسيهما معنيين بالمطالبة بي، ولا حتى في الإقرار بوجود شاعر وصحافي سوري داخل السجن!!