فساد مخيف

مُخيف من حيث حجم الأموال التي تحملتها الخزينة جراءه، وضياع موارد الدولة المحدودة في أوجه انفاق لم تغن ولم تسمن من جوع، نعم، انه الفساد الإداري الذي ما يزال غائبا عن بوصلة الرقابة الرسميّة بالشكل المطلوب. اضافة اعلان
كل ما نسمع به هو الفساد المتعلق بالاعتداء المباشر على المال العام، أي السرقة والاحتيال، لكن الحديث عن تداعيات الفساد الإداري الذي يرتكبه المسؤول ما يزال متواضعاً للغاية إن لم يكن معدوماً في بعض القضايا، حتى إن المساءلة والتقييم غائبان أيضا، لدرجة أن البعض يرى في بعض فئات المسؤولين أنهم يتمتعون بحصانة مطلقة.
من يصدق أن دولة مثل الأردن يتخذ فيها قرار بإعادة هيكلة القطاع العام بكلفة تقديرية حينها لا تتجاوز الـ82 مليون دينار، ليتفاجأ الجميع أن الكلفة الحقيقية ناهزت النصف مليار دينار، وهو ما يعادل وحده عجز الموازنة المقدر لسنة 2019، ويمر القرار دون محاسبة أو حتى تقييم علمي وواقعي لما حدث في هذا الأمر الذي يشكل في اعتقادي أكبر جريمة إدارية بحق الموازنة العامة للدولة، والنتيجة المؤسفة كانت على كل النواحي والاتجاهات، فلا القطاع العام تطور، ولا الموظفون أصحاب الكفاءة بقوا في أماكنهم، فالغالبية منهم ترك منصبه، إما سافر للخارج، أو انتقل لعمل آخر في القطاع الخاص، ولا حتى الموظفين الذين تم زيادتهم هم الآخرون ارتفعت مستوياتهم الإنتاجية، والآخر من ذلك كله، الكلف الكبيرة التي تحملتها الخزينة وبالتالي تحملها المواطن وستتحملها الأجيال المقبلة والتي من المقدر أن ترتفع كلف خطة الهيكلة التي كانت قد أُقرت فيه العام 2011 بأكثر من 700 مليون دينار، فأي فساد واعتداء على المال العام اكبر من هذا الفساد؟.
اتفاقيات شراء الكهرباء من الشركات الاستثمارية في قطاع الطاقة المتجددة، شيء يدرّس في علم الغباء الإداري الرسميّ، فالحكومات ألزمت نفسها باتفاقيات شراء طويلة الأمد (25) عاما لشراء كميات كبيرة من الطاقة المولدة من تلك الشركات بأسعار عالية جدا (11.5 قرش لكل كيلو واط)، الخطورة في الأمر أن احتياجات المملكة من الطاقة لا تتجاوز الـ3200 ميجا واط، في حين ان الحكومة تشتري من الشركات المستثمرة والبالغ عددها 29 شركة ما بين 4200 - 4500 ميجا واط، أي أنها تدفع زيادة للشركات ما يقارب الـ350 مليون دينار لطاقة لا تستخدمها أبداً، ولا يمكن لها حتى ان تحصل عليها بسعر اقل لبيعها لفئات في المجتمع بسعر مخفض أو عادل أو حتى توجيهها للقطاع الاقتصادي الذي يعاني من كابوس ارتفاع كلف الإنتاج عليه بسبب جنون فاتورة الطاقة.
طبعاً هناك من يقول إن ظرف توقيع الاتفاقيات تلك حينها كان له مبرراته الواقعية حيث الانقطاع من الغاز المصري وارتفاع أسعار الطاقة عالميا، لكن الحقيقة أن هناك كان تقصير غداري واضح في قراءة المشهد الاقتصادي عامة، وسوق الطاقة خاصة، فالتسرع كان السمة الأبرز في سلوك المسؤول الذي لغاية هذا اليوم لم يسال ولم يحاسب على هذا الهدر المالي الكبير.
والمؤلم في الأمر أن كل منتجات الطاقة في العالم اليوم تباع بأسعار متواضعة إلا في الأردن، التي ما يزال المواطن والصانع والتاجر والمستثمر يدفع اعلى تعرفة كهربائية في المنطقة، ولا يستفيد أبداً من أي انخفاضات عالمية بالأسعار.
الفساد الإداري لا يقتصر على الحالتين السابقتين، بل يمتد لعشرات الحالات من أوامر التغيير والإعفاءات التي تمنح دون رقيب أو حسيب، وانتشار مظاهر الرشوة وغيرها من السلوكيات التي انتشرت في السنوات الأخيرة بين عدد من موظفي الدولة، والتي أثرت جميعها على شكل الخدمة العامة ومفهومها باتجاه سلبي وأهدرت موارد الدولة وحملت الأجيال القادمة كلفا مالية كبيرة يُدفع ثمنها إلى يومنا هذا، فهل يوجد فساد مخيف مثل الفساد الإداري الذي شهدناه في السنوات الماضية؟