"فقلت استغفروا ربكم"

د. محمد المجالي

لا يمكن إنكار أهمية الشأن الاقتصادي في حياة الناس، فهي القضية الأهم –بعد الدين، ولقد قدم الله تعالى الطعام على الأمن حين امتن على قريش فقال: "فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، وما سعي الناس في الأرض وكدّهم في الطلب غالبا إلا من أجل الرزق، والإنسان لا يأتيه رزقه عنده، بل لا بد من السعي والأخذ بالأسباب، والله سبحانه قدّر للإنسان كسبه ورزقه إن تحرك وسعى، وأحسن التوكل على الله.اضافة اعلان
وحين تحيط بالناس ظروف اقتصادية صعبة فلا شك أن هناك اتجيهان في تأمين احتياجات الناس، يكملان بعضهما، لأنها مسؤولية مشتركة بين الدولة والفرد، فهناك اتجاه الفرد أن يحسن التصرّف في استغلال ما بين يديه، ويقتصد، وينظم شؤون حياته، وربما يقتصر على الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات، ولعل قصة رؤيا الملك في سورة يوسف وتأويلها مدخل مهم لهذا الشأن الفردي والمجتمعي على حد سواء.
والاتجاه الآخر هو اتجاه الدولة، أن تحسن إدارة الموارد فيها، وأن تكون في أعلى درجات العفة والعدالة والاستقامة، فحياة الناس وكرامتهم وعزتهم هي مسؤولية الدولة بمؤسساتها وأجهزتها، وإن غاب هذا المفهوم عن برامجها فالأمور من صعب إلى أصعب، والمصير هو الانهيار أو الفوضى لا محالة، خاصة حين تغيب الثقة بين الناس وحكوماتهم، وحين يعم الفساد وما من متابع أو مصحِّح للمسيرة.
أي دولة بحاجة إلى حسن إدارة وإرادة، وإن فهمنا حسن الإدارة حيث تتطلب استقامة وعدالة وتخصصا وعلما وفنّا، فإن الإرادة كذلك بحاجة إلى أولي عزم وحزم وقوة في الحق، تنعكس صفاتهم على الشعب فيكون التكاتف والتعاون في تجاوز الصعوبات والوصول إلى بر الأمان، وكثيرة هي النماذج من الدول التي استطاع قادتها بتجردهم وسعيهم الدؤوب وعفتهم وحسن تخطيطهم أن يصلوا بدولهم لا إلى النجاة فقط، بل إلى التميز والرقي والتقدم، كما في سنغافورة وتركيا وماليزيا وغيرها، ولعل مراجعة سريعة في سياساتها تشير إلى صرامة في المنهج مبنية على حسن إدارة وتوفّر إرادة حقيقية، محفوفتان بعفة وبعد عن حظوظ النفس والفساد، ما أوجد ثقة مطلقة بينهم وبين شعوبهم.
ولو تصفحنا المنهج القرآني في مثل هذه المسائل لوجدنا قصة يوسف كما أشرت، وذلك من أجل مواجهة المصاعب الاقتصادية، ولوجدنا انهيار الدول الغنية إن عم الفساد والطغيان والظلم كما في قصة فرعون وقارون وسبأ، وهنا نتذكر مقولة ابن تيمية: "إن الله يؤيد الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يؤيد الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"، فالعدل بمفهومه الشامل فيه احترام للإنسان وحقوقه، وهي علامة على الرقي الذي يقابله الله تعالى بالتأييد، فالإنسان هو موضع التكريم الأساسي، فمطلوب احترامه وتأدية حقوقه، وهو حر باختيار عقيدته، وما أبشع أن يُحكَم الإنسان بالإسلام المشوّه، ومن خلاله يُسلب حقوقه وتهان كرامته، وندعي حينها بأننا مسلمون وتجب علينا الطاعة!
تضعضع الوضع الاقتصادي منذِر بمخاطر كثيرة منها اتساع الجريمة والفوضى الاجتماعية والتطرّف بأنواعه، فحري بالدول أن تولي هذا الأمر جل اهتمامها، ولعل أوضاع بعض دول اليوم واضحة المعالم في التخلف والتراجع والأسى، ولا يسَيْطَر على شعوبها إلا بالحديد والنار، وبئست العبودية هذه التي لا يسعى المواطنون فيها إلى مجرد البحث عن خلاص، ولكنه الركون والاستعباد الذي تتقنه أنظمة كثيرة منها الإسلامية.
هذه كلها أمور يعززها النظام الإسلامي بفروعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية والتربوية، والله سبحانه يوضح في القرآن أنه الرزاق، وأن ما من دابة إلا على الله رزقها، وأن من أبواب الرخاء الاقتصادي غير العدل موضوع الاستقامة فقال: "وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا"، وقال على لسان نوح عليه السلام: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا، ما لكم لا ترجون لله وقارا"، والاستغفار هنا علامة على الالتزام والاستقامة، ونتائجه هذه التي ذكرها الله تعالى، من غيث السماء وجنات الأرض، والإمداد بالمال والبنين.
الإنسان الذي يؤمِّن قوته وقوت أهله مستقر، وحين يستقر ويقنع يمكنه أن يفكر ويبدع وينهض، فهل لا يراد لنا كشعوب أن نفكر ونفهم ونتطلع إلى تقدم! فلا بد من بقائنا في تخلف وبحث عن قوت يومنا ونشغل أوقاتنا ونركز اهتماماتنا بهذا!؟ هل هذا هو المراد من المسلمين أن يبقوا متخلفين!؟ إن كان هذا هو المطلوب والواضح في سياسات كثير من الدول فلا بد من نهضة حقيقية، تعيد للدول استقرارها وللإنسان كرامته.
الدولة العاجزة عن سد الفجوة بين الناس لا تمثل قدوة للمواطن، وهناك وسائل كثيرة تستطيع الدول فعلها من مشاريع واستثمارات وحسن تخطيط، وهناك فريضة الزكاة التي لا بد لأجل أدائها من وجود ثقة بين المزكّي وحكومته، فأقترح وجود صندوق للزكاة بإدارة غير حكومية يتقبلها الناس، يقف عليها رجال معروفون بنزاهتهم واستقامتهم وعفتهم.