لم يستطع بعض الأصدقاء إخفاء امتعاضه من مقالتي الأسبوع قبل الماضي، عن زيارتي لفلسطين، حين صُدموا بما قلته إن فلسطين بلاد عادية، وإننا نحبها فقط لأنها بلادنا، وليس لأنها أجمل بلاد الله!
وأنا منذ بدايتي العمل الصحفي قبل ربع قرن دائماً ما آمنتُ بأنه ليس هناك قارئ لم يقرأ جيداً إنَّما هناك كاتب لم يكتب جيّداً.
لذلك أجدني أعود لأوضِّح: الفكرة في الأمر أن البلاد، أي بلاد، ليست مضطرة لتعطيك الأسباب لتحبَّها، وليست بحاجة براهين تقنعك انها تستحق حبَّك!
البلاد تُحَبُّ لذاتها، وليس لسهولها الخضراء، أو لجبالها العظيمة، حتى لو كانت أرضا قفرا، أو جرداء تجري فيها الكلاب، وإلا فلماذا لا نحبُّ السويد مثلاً اكثر من فلسطين اذا كان المقياس جمالياً أو زراعياً؛ فهي أجمل من بلادنا (أجمل قليلاً حتى لا يغضب المتشددون العاطفيون).
الاوطان ليست بحاجة أن تقدم لنا هدايا ورشوات لنحبّها، ونحن لا نحبها لأنها أجمل او أنظف أو غنية بالثروات أو لأن طقسها ساحر وشواطئها دافئة، حتى لو توفر كل ذلك، لكننا نحبها لأنها الوطن فقط!
ثم إننا نحب الوطن حين يكون مصاباً، فالأوطان حين تصبح دولاً ناجزة وكاملة الشروط تكفُّ عن كونها وطناً بالمعنى الرومانسي، فدولة مثل فرنسا أو سنغافورة أو قبرص ليست بحاجة لتكتب فيها الأغاني وأن يكتب ابناؤها القصائد في حبها. هي دولٌ حدثت وانتهى الأمر!
أما الوطن فهو البلد المصاب، البلد الفقيد، البلد الذي لم يتحقق تماماً، البلد الذي يثير البكاء عند ذكر اسمه، وهو (كالغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى)، وحين يشفى يصير بلداً عادياً نتذمر منه ونشتمه ونخطط للهجرة منه!
لذلك لا يضير فلسطين القول إنها بلد كأي بلد، أرضها كأي أرض، لكن التراجيديا التاريخية التي حدثت لها هي التي رفعتها الى مقام الأوطان الرسولة، ودججتها بكل هذه المعاني الشاهقة، والشهداء الذين ماتوا لأجلها هم أيضاً من أعطاها هذه الجدارة الثورية والتاريخية، واللاجئون والنازحون والمهجَّرون والحكايا الجمعية والفردية، هي التي صنعت كل هذه الرجفة التي تصيبك لذكر اسمها!
نحن لسنا أسطورة لكن حكايتنا هي الأسطورية؛ هذا ما حاولتُ قوله، وتاريخ الشعوب والثورات في العالم مليء بالبطولات الفردية والجمعية، لكننا نستطيع القول أننا نمارس حباً غير عادي لأرض عاديّة، وفي رأيي ان هذا أبلغ. فالفلسطينيون شعب عادي كباقي الشعوب يصابون بالأمراض الجلدية ويكتبون شيكات بدون رصيد ويشتمون سائق السرفيس، لكنهم قدموا للتاريخ أعظم ثورة معاصرة، وأصلب صمود وسط حرائق كانت كافية لتمحو أي شعب. وفي رأيي أن نقول إننا شعب عادي قدَّم كل هذه التضحيات من أجل بلد عادي فهذه هي “غير العادية”.
أما أنا، وأنتَ إن شئت، فلنا أن نحبَّ بلادنا بشكل غير عادي، وأن نبالغ في ذلك ونفرط، لكن هذا شأننا، ولا يخصُّها هي؛ فهي ليست مضطرة أن تنجب نهراً جديداً، أو جبلين كبيرين لتستحق حبَّك!
ibrahemـ[email protected]