فن الوجود

يقترح إريك فروم في كتابه "فن الوجود"، لأجل أن يجعل الإنسان لوجوده معنى، أن يعلّم نفسه التركيز والتأمل، ويحاول إجابة نفسه عن مجموعة من الأسئلة، مثل: على من أعتمد؟ ما هي مخاوفي الكبرى؟ ماذا كان مقدرا لي عندما خُلقت؟ ماذا كانت أهدافي وكيف تغيرت؟ ماذا كانت العقبات في طريقي عندما اتخذت طريقا خاطئة؟ ما هي الجهود التي بذلتها لأصحح الخطأ وأعود إلى الطريق السليمة؟ من أنا الآن؟ من سأكون إذا اتخذت دائما القرارات الصائبة وتجنب الأخطاء المصيرية؟ من هو الشخص الذي كنت أريد أن أكونه في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما هي الصورة التي رسمتها لنفسي؟ ما هي الصورة التي أرغب أن يراها الآخرون عني؟ أين هي التناقضات بين الصورتين؟ ما هي التناقضات بين الصورتين وبين ما أشعر أنه الحقيقة؟ من هو الشخص الذي سأكونه اذا استمررت في العيش كما أفعل الآن؟ ما هي الظروف المسؤولة عن التطور الذي تعرضت له؟ ما هي البدائل أمامي لتطور اهتمامي؟ ماذا يجب أن أفعل؟اضافة اعلان
معنى الحياة وهدفها مرتبطان بالحاجات الإنسانية التي نسعى لتحقيقها. ولكن الأكثر صعوبة هو كيف نميز بين الأصيل وبين الزائف في هذه الاحتياجات والمعاني. ويمكن، على سبيل المثال، ملاحظة القدر الهائل من المنتجات غالية الثمن، وهي في الحقيقة عديمة القيمة، والعكس صحيح أيضا؛ يمكن ملاحظة مجموعة كبيرة من المتطلبات والاحتياجات الفكرية والمادية، ولكنها مهملة ولا يُلتفت إليها.. تكاد مسألة الوجود تكون هي التمييز بين الأصيل وبين المزيف!
يعتقد فروم أن إحدى عقبات الوجود هي التفاهة، وأسوأ التفاهات هي الحديث التافه، لأنها برأيه تشكل الإنسان على نحو ضحل وضعيف، يتعلق بظاهر الأمور فحسب، وليس بأسبابها أو بما يتضمنه جوهرها. وهو يستشهد بمقولة بوذا: "لن أشارك في حديث عن الأشياء السخيفة؛ الأكل والشرب والملبس والسكن والعطور والأقارب والأجداد والقرى والمدن والنساء والرجال...". في المقابل، فإن الكلام في المعرفة والتواضع والفضيلة والحكمة، يساعد على الحياد وتصفية الذهن.. وتحمل الحياة القاسية.
ولو شئنا تطبيق مقولة بوذا على ما يجري في المجالس والإعلام والاجتماعات والمؤتمرات والدروس والمحاضرات والمواعظ والمساجد والأسواق والهواتف و"فيسبوك" وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.. فسنجد أننا نتلقى كل يوم قدرا هائلا من التفاهة. يضاف إليها ما يحل فينا عنوة من الضجيج والشتائم والتلوث. وكل ذلك يتراكم فينا على مر الزمن. لكن ماذا تلقينا من الحكمة والفضيلة والمعارف في المقابل؟
يقابل التفاهةَ اليقظةُ. وتعني أيضا الوعي والقدرة على رؤية العالم بالمعنى الفيزيائي؛ بألوانه وكثافته وأبعاده وامتداداته، كما رؤية الأفكار والمفاهيم أيضا. والملفت هو ما يشير إليه فروم بأننا في نومنا أكثر يقظة من يقظتنا؛ فغالبا ما تؤكد أحلامنا على أفعالنا المبدعة، أما أحلام اليقظة فتؤكد على كسل عقولنا!
يذكر فروم مثالا على اليقظة؛ رجل يقوم بعمله الروتيني بسأم، ولكنه يغادر مكتبه ليقابل امرأة يحبها، فيتحول فجأة إلى رجل جذاب لماح مليء بالطاقة والحيوية! ولكنه عندما يصل إلى البيت يصبح ضجرا خاملا. وبالطبع، هناك ما يحفز اليقظة غير الحب؛ الخطر وفرص النجاح والفوز، وتدمير الآخرين وإخضاعهم.. قل لي ماذا يوقظك، أقل لك من أنت.
سأواصل يوم الجمعة المقبل عرض مجموعة أخرى مصاحبة ومرادفة في معانيها لليقظة: الإدراك، والتأمل والتركيز، كما تحدث عنها فروم في كتابه. ولكني سأقفز في نهاية هذه المساحة إلى فكرة التحليل النفسي الذاتي التي يقدمها فروم باعتبارها، على صعوبتها، مكملة للتأمل وضرورية ليستكشف المرء "لا وعيه". وهنا ينصح فروم القارئ باستعراض السيرة الذاتية، بدءا من الطفولة المبكرة؛ والحصول على صورة للأحداث المهمة: المخاوف الأولى، الآمال الأولى، خيبات الأمل الأولى.. والأحداث التي قلصت من ثقتك وإيمانك بالناس وبنفسك أيضا.. ثم تسأل نفسك الأسئلة التي بدأت بها المقال!

[email protected]