فيلم "المنزل الأصفر" من الجزائر: هزيمة الموت بشريط فيديو

روتردام- من بين الأفلام التي عرضت في مهرجان روتردام السينمائي ضمن قسم "زمن ومناسبة" الفيلم الجزائري "المنزل الأصفر" تأليف وإخراج وبطولة عمور حكار. وشأن معظم الأفلام التي تأتي من الجزائر أنتج الفيلم بتمويل فرنسي، وصور في منطقة جبال قبائل البربر(الأوراس)وجاء ناطقا في معظمه باللغة الامازيغية.

اضافة اعلان

هذا الفيلم يبتعد تماما عن الموضوع المطروق باستمرار في الأفلام الجزائرية خلال السنوات الأخيرة، أي انتشار العنف وجماعات الإرهاب وتأثيرها على المجتمع.

يختار المخرج عمور حكار موضوعا مجردا، له علاقة بالموت عندما يحل فجأة في حياة أسرة بسيطة فيكاد يؤدي إلى تفتتها وانقلاب حياتها رأسا على عقب، ويصور كيف يمكن التغلب عليه بالتضامن الإنساني.

تدور الأحداث في منطقة جبلية نائية، حيث تعيش أسرة مكونة من الأب (مولود)، والأم(فاطمة) وثلاث بنات أكبرهن"عالية"، وهي في حوالي الرابعة عشرة، وللأسرة ابن أكبر غائب يؤدي الخدمة العسكرية هو "بلقاسم".

الرجل يزرع وينقل محصوله من ثمار البطاطا بواسطة ما يطلق عليه "لامبرتا"، وهي عربة تجرها آلة أقرب إلى الدراجة النارية، حيث يبيعه للعابرين بسياراتهم على الطريق العمومي الذي يمر قرب القرية.

ذات يوم تحضر سيارة الشرطة ويخبر شرطي "عالية" بوفاة شقيقها بلقاسم وإنه يتعين على الأب استلام جثته من باتنة، ويعطيها بلاغا رسميا بذلك.

ردود فعل الحادث المفاجئ على الأب قوية لكنه بتكوينه الجبلي البدوي قادر على التماسك، أما الأم فينزل الخبر عليها نزول الصاعقة.

  يقرر الرجل الرحيل إلى مدينة باتنة لاستلام جثة ابنه، ويبدأ ما كان يمكن أن يصبح فيلما من أفلام الطريق المثيرة للاهتمام. 

غير أن لاشيء حقيقيا يحدث خلال الرحلة التي تستمر نهارا وليلا بعربة اللامبرتا. إن كل من يقابلهم "مولود" في طريقه أقرب إلى الملائكة منهم إلى البشر، فالشرطي يوقفه ويسأله عن عدم وجود ضوء على عربته الغريبة، وبدلا من تحرير مخالفة له، يناوله مصباحا يصدر ضوءا أصفر متقطعا يضفي لمسة جمالية خاصة على مشهد العربة وهي تتهادى في ظلام الليل وسط الجبال الخضراء المعتمة.

وخلال الطريق يتوقف مولود ويجلس على مقهى لتناول القهوة وتناول بعض الطعام، ويسأل جنود الدرك الوطني عن ابنه فنعرف من خلال الحوار بينهم أن "بلقاسم" توفي في حادث على الطريق قبل يومين.

وبعد وصوله في الليل إلى باتنة، يستعين بسائق تاكسي لكي يقرأ له الرسالة الرسمية، فمولود لا يعرف القراءة والكتابة، ثم يعرض أن يقوم بتوصيله إلى قسم الشرطة الذي جاء منه الاستدعاء.

وعندما يصل إلى القسم بعد منتصف الليل يخبره الشرطي أن المكتب المختص مغلق الآن، ويطلب منه التوجه في الصباح إلى المستشفى حيث توجد جثة ابنه.

مع أول ضوء للصباح يصل إلى المستشفى ويسمح له مسؤول المشرحة بالدخول رغم أن موعد العمل الرسمي لم يحن بعد.ويقول له إن صديقا لابنه أحضر حاجيات الابن وبينها شريط فيديو.

يصر مولود على حمل جثة ابنه قبل استيفاء الأوراق الرسمية والحصول على تصريح بالدفن، فيتسلل بعيدا عن عيني الموظف المسؤول، ويضع الجثة داخل نعش ثم يجره حتى يرفعه فوق العربة ويرحل.

لكن العربة تتعطل أثناء الطريق، ولا يدري هو ماذا يفعل. هنا يدركه سائق التاكسي الذي سبق أن قابله في باتنة، ويعرض أن يقوم بقطره إلى أقرب "ورشة" لإصلاح السيارات. هنا أيضا يلحق به مسؤول المشرحة ليعطيه التصريح بالدفن الذي غادر دون الحصول عليه.

ويقوم الميكانيكي بإصلاح السيارة، ويرسل بمن يأتي بشيخ معمم من القرية القريبة لكي يؤم الصلاة على الميت أمام النعش.

وهكذا.. تصبح كل الشخصيات التي يقابلها مولود طيبة وخيرة، تساعده وتتضامن معه في محنته دون سابق معرفة. إنها الجنة الأرضية التي تشهد عليها تلك الجبال الراسخة الغناء التي تهزم الموت بشموخها وروعتها.

يصل الرجل إلى القرية، وينضم له كل رجال ونساء المنطقة في تشييع الجثة، ويقيم الجميع الصلاة في المقابر ويتلقى الرجل وابنته عالية العزاء من الجميع.

وفي الجزء الثاني من الفيلم، تبدأ رحلة مولود الشاقة من أجل استعادة زوجته، التي هجرت الدنيا، وأصابها اليأس والإحباط والاكتئاب بعد وفاة ابنها، وانزوت ترفض أن تتكلم أو تأكل أو تخالط أحدا.

مولود يفعل كل شيء من أجل مساعدة زوجته. يذهب أولا إلى الصيدلي بحثا عن دواء لحالة زوجته، فيقول له الرجل إنه لا يوجد دواء لعلاج الحزن. وينصحه أن يأخذها ويخرج لكي يسري عنها، لكن مولود يقول إنهم يعيشون في الجبال، فيروي له أن حالة مشابهة تحسنت بعد أن قام الزوج بتغيير لون منزل الأسرة إلى اللون الأصفر.

يأخذ مولود بالنصيحة، فيقوم، بمساعدة بناته الثلاث، بطلاء المنزل المبني من الأحجار، باللون الأصفر. لكن تغيير اللون لا يغير شيئا من حال الزوجة. وتقترح "عالية" شراء كلب للتسرية عن الأم.

  ويشتري مولود الكلب لكن الحال لا تتغير.ويتذكر مولود شريط الفيديو الذي تركه ابنه، فيشاهده على جهاز في مطعم شعبي بالبلدة القريبة التي يتردد عليها لبيع ثماره، فيشاهد بلقاسم وهو يوجه حديثه لهم، يبشرهم فيها بعودته إليهم خلال أيام.

يصر الرجل على ضرورة شراء جهازي الفيديو والتليفزيون مقابل توريد ثمانية صناديق من البطاطا لصاحب المطعم.

لكنه سرعان ما يكتشف أن الجهازين في حاجة إلى كهرباء لكي يعملا. يذهب لمقابلة المسؤول المحلي، ثم والي الولاية الذي يأمر بإمداد وصلة كهربائية لمنزل الأسرة.

وعندما ينجح أخيرا في ادارة شريط الفيديو وتشاهده الأم.. تبتسم في زهو وفرح، فهي تتصور أن ابنها حي وأنه سيعود بعد أيام معدودة.

وعلى الرغم من سذاجة الفكرة بأكملها، ورتابة الأحداث، خاصة في الجزء الأول من الفيلم، والصورة النمطية للشخصيات، وضعف واضطراب الأداء التمثيلي عموما، إلا أن أكثر ما يبقى من هذا الفيلم في الذاكرة، التصوير الممتاز للمصور الفرنسي نيكولا روش الذي يجيد استخدام المصادر الطبيعية للضوء، في المشاهد الداخلية والخارجية، ويستخدم الضوء الشاحب في المشاهد التي تدور داخل الغرف الضيقة للمنزل الحجري، وانعكاس الظلال القاتمة على وجه الزوجة، لصنع لوحة تعبيرية جذابة.

ويستخدم المخرج الموسيقى والأغاني الأمازيغية ويجعلها تضفي جمالا خاصا يسود الكثير من مشاهد الفيلم، وينتقل من اللقطات القريبة للوجوه (كلوز أب) إلى اللقطات العامة للطبيعة في سلاسة وليونة، مجسدا علاقة قوية بين الإنسان والطبيعة، وبين الشخوص والمكان في توحد فريد بين العنصرين.

وهو لا يميل إلى التركيز على التفاصيل في المشهد فهو لا يتعامل مع فيلمه على صعيد واقعي رغم إطاره العام الواقعي، كما لا يهمل فكرة المنزل الأصفر ولا يستغلها كثيرا في التصوير لتوصيل أي إشارات تتعلق بأسطورة ما أو بمعتقد شعبي ذائع، كما قد يتوقع مشاهدو الفيلم حتى من خلال عنوانه فقط.

وليس من الممكن التعامل بالتالي، مع فيلم "المنزل الأصفر" رغم واقعيته الخارجية، باعتباره فيلما واقعيا تماما، وإلا لاعتبرناه عملا بدائيا هشا بعيدا تماما عن الإقناع، فليس من الممكن أن يوجد شخص حتى في أوساط البيئة الجبلية في الجزائر على هذا النحو من السذاجة، لا يعرف مثلا أن التليفزيون يعمل بالكهرباء، وأن الدفن يحتاج إلى تصريح، وأنه لا يوجد دواء لتخفيف الحزن.. وغير ذلك.

ومن الأفضل كثيرا التعامل مع الفيلم على أنه عمل من سينما ما وراء الواقع.. سينما شاعرية تتعامل برقة مع فكرة واحدة هي فكرة الحياة مقابل الموت، والظلام مقابل النور.

تأكيد على هذا المعنى يبدأ الفيلم بزفة عروسين، في موكب للسيارات المزينة بالورود والأزهار، مع موسيقى شعبية بربرية واحتفال كبير بالحياة، وفي المشهد التالي مباشرة تتلقى الأسرة خبر موت الابن.

وفي فيلم رمزي، خارج الواقع، ليس من الممكن أيضا محاسبة المخرج على مدى التزامه بدقة التقاليد وحرفية الطقوس المتبعة، فالصلاة تتم هنا من دون وضوء، ودون حتى خلع الأحذية، وفي الطريق العام أمام ورشة اصلاح السيارات، ولا تنتهي كما تنتهي الصلاة الإسلامية بل وتتم(على الواقف) أي من دون ركوع أم سجود، تماما على شاكلة أفلام الغربيين الاستشراقيين الذين لا يفهمون المجتمع الإسلامي وتقاليده وقيمه.

ولا يمكن أيضا أن يكون الطريق خاليا تماما في رحلة العودة من الشرطة ومن دون أن يوقفه شرطي ليسأله عن ذلك النعش الكبير الذي يحمله فوق عربته العجيبة التي تتحرك ببطء وسط التلال.