"فيها يُفْرَق كل أمر حكيم"

د. محمد المجالي

هي ليلة القدر، وقد ورد شأنها في سورتي: القدر والدخان، لعل الغالبية تعرف عن سورة القدر، فقد ذكر الله سبحانه الليلة باسمها، وسمى السورة كذلك باسمها، فكلها عن ليلة القدر: "إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر".اضافة اعلان
في هذه السورة إخبار عن نزول القرآن في ليلة القدر، وهو النزول الكلي جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم يفصّل ربنا سبحانه في شأن هذه الليلة، فجيء بالاستفهام تعظيما لها ولفتا للنظر إلى عظمتها، فأخبر سبحانه بأنها خير من ألف شهر؛ إذ العبادة فيها أفضل من عبادة في ألف شهر، وأنه تتنزل الملائكة ومعهم جبريل (الروح) فيها بإذن ربهم من كل أمر، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، فهي كلها ليلة القدر، وليس جزءا منها، فمن أدرك جزءا منها أدركها، بفضل الله تعالى ومنه وكرمه.
وسميت بليلة القدر لأنها ذات قدر عظيم ومكانة عالية عند الله تعالى، أو أن صاحبها ذو قدر، أو هو من التضييق كما قال تعالى: "وأما إذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقه" أي ضيّق، فالسماء الدنيا وما فيها تضيق من كثرة وجود الملائكة فيها كما صرحت الآية، أو أن الله تعالى يقدّر فيها ما شاء طيلة العام من الأمور، وهذا ما تدل عليه الآية الأخرى من سورة الدخان: "فيها يُفْرَقُ كل أمر حكيم"، أي يُقضى، ولا يمنع أن تكون هذه كلها مرادة؛ إذ لا تعارض بينها، وهذا بحد ذاته يدل على عظم هذه الليلة المباركة.
وعودة إلى آيات سورة الدخان في مطلعها: "حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يُفرَق كل أمر حكيم. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم. رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين"، فقد بين فيها سبحانه أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، والبركة هي كثرة الخير بأنواعه، ما علمناه وما لم نعلمه، وأنه يُفرق فيها كل أمر حكيم، ولفظ (كل) من ألفاظ العموم، وورد أيضا وصف الرحمة، وقد يكون مشتركا بين الإنزال للقرآن نفسه، ووصف هذه الليلة بأنها رحمة، وكل ذلك ممكن.
وإذا نظرنا في السورتين، فالحديث ابتداء عن نزول القرآن: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)، ثم ينصرف الحديث إلى وصف تلك الليلة، ولكن سورة الدخان فيها تفصيل مترتب على القرآن أكثر، فقوله تعالى: "إنا كنا منذرين"، فالإنذار بالقرآن وليس بليلة القدر، أو أنها فرصة لكم أيها المسلمون لاستغلال ليلة القدر لتتهيؤوا أن تكونوا دعاة تتحملوا مسؤولياتكم، فهذه الليلة بأوصافها من يحرص عليها لا شك هو قاصد أن يكون له شأن عند الله، فليس الأمر ذاتيا لا يتعداه، بل يبني فيه روح المسؤولية التي فيها رقي هذه الأمة وقوتها وعزتها، ربما يدل على ذلك أيضا وصف (المرسلين)، وكذلك هذا الحديث عن التوحيد لله تعالى الذي هو لب رسالة الإسلام والقرآن.
ونبحث عن العلاقة بين اسم سورة الدخان ومضمونها، فقد قال الله تعالى: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم.."، وهو علامة من علامات يوم القيامة، وهذا الحديث جاء مباشرة بعد السابق عن ليلة القدر وإنزال القرآن، فهذه الدنيا لا تحتمل لعبا ولهوا، بل لا بد من اليقظة والحذر، فهي سنين معدودة، فلا تغرنا الحياة الدنيا، وهذا بحد ذاته ملائم لموضوع السورة السابقة للدخان وهي الزخرف، وهي من اسمها تتحدث عن زخرف الحياة الدنيا وكيفية مقاومته، والسورة بعدها هي الجاثية، حين تجثو كل أمة متوسلة أن يرحمها الله تعالى، فهو القرآن الذي من سار على هديه نجا، وهي العبادة واستغلال الفرص ومنها هذه الليلة العظيمة، التي ربما تغيّر صاحبها ليكون ذا شأن عظيم عند الله بإخلاصه لله تعالى فيها.
ومرة أخرى نبحث في سورة الدخان، لنرى الحديث عن فرعون وقومه وكيف فتنهم الله وكيف نجى موسى عليه السلام، واستأصل فرعون وقومه، والاقتصار على قصة فرعون كونه رمز الطغيان، وهنا يأتي التحذير من اللهو واللعب، والله نفسه يقول: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون"، وبعدها الحديث عن يوم الفصل، الميقات الذي ينتظرنا أجمعين، فلا شفاعة، ولا يغني أحد عن أحد، إلا من أدركته رحمة الله.
وفي السورة حديث عن أوصاف فريقي البشر، من أهل الجحيم وأهل النعيم، وهي أوصاف غاية في الشدة لأهل الجحيم، وغاية في الرقة لأصحاب النعيم، وتُختم السورة بما بدأت به، حيث الحديث عن القرآن الكريم: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون. فارتقب إنهم مرتقبون".
وهنا لا بد من الربط العام، فالوقود والزاد الذي يحرص عليه المؤمن في رحلته إلى الله هو هذا القرآن وهذه العبادة، ينشغل فيهما غير معزول عن محيطه وعن العالم، فهو مطالَب بالصلاح والإصلاح، بأن يكون معول بناء لا هدم، يستغل أيام حياته بجد وهمة وثقة بالله تعالى، غير لاه ولا لاعب، فالأمة تنتظر أبناءها ليسهموا في نهضتها وعزتها، ومن لا يتذوق هذه المعاني في رمضان وليلة القدر فلا أظنه يدركها بسهولة في غيرها من الأيام، والله خير حافظا، وهو أرحم الراحمين أن يعفو عنا ويعتق رقابنا من النار، ويصلح شأننا، اللهم آمين.