في الإقناع والاقتناع: من يمتلك التأثير الحقيقي؟

تحسّس صديقنا وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال ناصر جودة من المقال الذي كتبته ونشرته الأسبوع الماضي، وأنا لا ألومه كثيراً لأنني لو كنت مكانه لفعلت الشيء ذاته، وان كنت سأفعل ذلك مع بعض التغيير في الأسلوب والتأكيدات.

اضافة اعلان

لن أخوض في تفاصيل المحادثة الهاتفية بيننا والتي تلت نشر المقال يوم الخميس، فباتصاله بدلاً من الرد كتابة على ما كتبت، أراد الوزير أن يكون حوارنا شخصياً، وبالتالي أجد من غير المناسب الكشف عن محتوى المكالمة...

كل ما أحب قوله هنا إنني كنت مدركا قبل نشر المقال وبعده أن الوزير فعلاً في وضع حساس، خصوصاً في هذا الوقت الذي يقع على عاتقه فيه شرح سياسة الحكومة حول قضية لا تتمتع بالشعبية ولا تود الحكومة أصلاً الخوض فيها لولا الضرورة وهي رفع الدعم عن المحروقات والأعلاف وكذلك تمرير الموازنة.

وهذا ما دفعني للتأكد من ألا يأخذ الحوار بيننا منحى غير الذي نريد، وهو ببساطة فتح باب النقاش حول دور الإعلام في بناء المجتمعات وبالتحديد في الأردن لأنه موضوع حيوي لشرائح المجتمع كافة التي تتلقى الجرعات الإعلامية واحدة تلو الأخرى، وفي أحيان كثيرة تحتاج الى المساعدة في فهم مضامينها والتعامل معها.

 أعدكم بأن أعود للحوار حول هذا الموضوع المهم، لكن دعوني أصارحكم بأن لا مجال لفتحه الآن كي لا يستشف أن هناك حملة ضد الوزير أو الإعلام الرسمي في هذا الوقت بالذات. وكدليل على ما أقول فقد قمت بإجراء خالفت فيه توجهاتي وأحسن نواياي في الانفتاح والصراحة التامة، وأوقفت مقالا لأحد زملائنا الكتاب الذي رأى أن يشاركنا حوارا نشب على غير صفحات "الغد" بعد نشر مقالي يوم الخميس الماضي، بنارية لا يحتملها الوضع الان.

لا أبغضَ من الحملات الصحافية... كأن يقوم أفراد أو مجموعات بكتابة الآراء الحادة أو كشف الأسرار المغرضة أو نشر التقولات عن الآخرين حين يدب الخلاف حول موضوع بعينه. وما قمت به وما أقوله الآن يصب في خانة التطويق والحفاظ على أصول المهنة وإثراء النقاش الإيجابي حول قضية مهمة ومفصلية تحت الضوء وستبقى كذلك الى فترة طويلة قادمة.

في هذا الإطار، لا أدري بماذا أصنف الحوار الذي دار على الصفحات الإلكترونية للزميلة "عمون نيوز" وغيرها من وسائل التعبير الحديثة والقديمة، فلم تكن لي القدرة على تجنبه أو التأثير في مجراه، ولو ان بعض ما كتب أُريد من ورائه التصيد أو تسجيل المواقف.

وليكن... فعلى أية حال.. الكلمات مهما كانت قوتها تعبر ولا تؤذي بقدر العنف الحقيقي ما دام أنها تبقى كذلك... مجرد وسيلة للتعبير اللفظي عن النفس والمشاعر؟

ذكرت أن وزير الدولة لشؤون الإعلام في وضع حساس تحت هذا الظرف الخاص الذي يتوجب على الحكومة معه أن ترفع الدعم عن منتجات الطاقة فيلي ذلك زيادة الأسعار على عامة الناس والتي بدورها ستنحي باللائمة على الوزراء ورئيسهم ولربما الدولة بأكملها.

فعلى الوزير من ناحية أن يقوم بشرح ما يحدث لأكبر عدد من الأردنيين ومن القطاعات المختلفة. ومن أجل أن تصل رسالته لهم جميعاً عليه استعمال كل الأدوات الإعلامية التي تمتلكها الحكومة وكل تلك الأخرى التي لا سلطة له عليها... ان كانت في القطاع الخاص أو بين وسائل الإعلام الأجنبية.

ومن الناحية الأخرى، يبقى الوزير مقيداً، بل مكبلاً، بالقرارات التي اتخذناها كدولة ومجتمع من قبل، كإلغاء وزارة الإعلام، وبالممارسات التي تبنيناها وما نزال في مجال التفاعل مع الإعلامين الرسمي والخاص وبالقوانين والأعراف والأنظمة التي تحكم أطر عمل الإعلام وتحدد أسس حملة الحكومة لشرح رؤيتها وسياساتها.

لا مجال في المزايدة على الوزير اذاً، كما ذكر ذلك بنفسه في مقابلة تلفزيونية يوم الجمعة، ولا أحد يريد أن يحمّله فوق طاقته.. ولكن هنا بيت القصيد الذي حاولنا التمهيد له الأسبوع الفائت ولن نتوانى أو ننزلق عن تناوله بأي حال من الأحوال.

هذا هو قطب الرحى: كيف للحكومة أن تدافع عن وجهة نظرها وتشرح للأردنيين ظروفها وتبرر وتمرر إجراءاتها الصعبة في الوقت ذاته؟

نتحدث هنا عن الإعلام: كيف نستخدمه في علوم السياسة والإدارة والاقتصاد وبالتحديد تحت مثل هذا الظرف الخاص الذي نعيشه في الاردن اليوم ابتداءً من تاريخ تشكيل حكومة المهندس نادر الذهبي، وخلال هذه الايام التي تسبق قرار الرفع، والأهم من ذلك في الأيام التي تلي اتخاذ القرار؟!

ماذا نفعل وقد ورثنا خلطاً في مفهوم إعلام الدولة والوطن وفي تحديد مسؤولية "الملف الإعلامي" والتنافس أو التناقض بين المؤسسات الإعلامية التي ورثناها وخلقناها في آن واحد؟!!

نترك هذه الاسئلة، وقد حاولنا الاجابة عنها من قبل، وللأسف من دون أن نفلح، وننتقل لفن الممكن، وهو في هذه الحالة استعمال ما نمتلك من أدوات لإقناع الناس بالخيار الأوحد المتاح وهو رفع الدعم عن المحروقات والأعلاف من أجل معالجة التشوهات الاقتصادية الناجمة عنه، خصوصاً وان برميل النفط ارتفع الى ما يقارب المائة دولار (وان كان ذلك نفط نايمكس الاميركي فقط) ومن أجل ضبط عجز الموازنة الذي يهدد اقتصاد الاردن بأكمله، وفي المحصلة تطويق الضرر الناجم عن زيادة الاسعار وبالضرورة حماية الطبقات غير القادرة مادياً أو الفقيرة، من التأثر الشديد بالارتفاعات الشاهقة للمواد والسلع الاساسية.

اذا كان فن الممكن هو السياسة، فكيف نستعمل الإعلام في سياسة شرح وتقبل ضرورة تحرير الأسعار؟!

هذا اذاً سؤالنا، وعلينا أن نوجهه لساستنا، إن كانوا في الحكومة أو البرلمان أو خارجهما، وهم بالتالي من سيتحمل المسؤولية الكاملة والمباشرة لرفع الاسعار، وليس فقط لوزير الدولة لشؤون الاعلام والاتصال.

الإعلام إن كان خاصاً أم رسمياً، قوياً أم ضعيفاً، مباشراً أم متردداً، لن يقوى على تحقيق الكثير اذا لم تكن سياسة الحكومة مستندة الى رؤية ثابتة وصحيحة لوضعنا الاقتصادي وقوية جدية وواضحة في معالجة الاختلالات التي تواجهنا اقتصادياً، وفوق هذا وذاك اذا لم تكن إدارتها للأزمة التي نعاني جراء ارتفاع اسعار البترول، وهي قضية عالمية لا نمتلك أي تأثير في مجراها، إدارة حصيفة ومتمكنة.

تحدث اقتصاديونا وكتابنا ومثقفونا كثيراً خلال الأسابيع الماضية، وكتبوا بسقف عالٍ في كثير من الحالات عن المشاكل والاختلالات الحقيقية التي يعاني منها المجتمع الاردني... الهوة بين الغني والفقير، الفساد المستشري، البيروقراطية، تصدع أسس العدالة، غياب المساءلة والمساواة، ولا اريد أن أعيد ما قيل أو كتب.. لكن أود أن اؤكد ان الاعلام لن يكون فاعلاً في حملتنا الجديدة هذه الا اذا استشعر ونبه لوجود ومخاطر استمرار الآفات الوطنية والمجتمعية أعلاه، ومن خلال ذلك انطلق الى التركيز وتسليط الضوء على ضرورة معالجة تلك الآفات والأمراض وكيفية التعامل معها، جنباً الى جنب مع اقتراح الحلول ومراقبة تطبيق البرامج والخطط الحكومية لإدارة مشروع الأزمة هذه، والأمل ان لا تصل لهذه المرحلة.

نظرة فاحصة للموازنة عن عام 2008 التي تقدمت بها الحكومة لمجلس النواب قد تكفي للدلالة على وجود نية وإدارة حسنة لنواة الأزمة، وعلى الإعلام أن يقوم ليس فقط بالقاء النظرات الفاحصة على الموازنة بل ايضاً باجراء الدراسات والتفاعل التام مع مداولات البرلمان والباحثين الاقتصاديين ومؤسسات المجتمع المدني لكي يلعب دوراً مفيداً في الاقتناع والاقناع، أي اقناع الناس، بأن ما تقوم به الحكومة هو الاجراء الصحيح والخيار الوحيد في إدارة موارد الدولة وتعزيز الاقتصاد وحماية مواطنيها من الغلاء والاحتكار.

في حال بقي الإعلام، العام أم الخاص، يقوم بما يقوم به الان...  يكتفي احياناً بالإشادة بإجراءات الحكومة أو الدفاع عن ضرورتها لحماية الأمن الوطني، واحياناً اخرى بإطلاق الاصوات العالية او بالتهويل او بالمزايدة، كما الحال حتى مع بعض الاحزاب والقوى السياسية أو النقابية والمدنية الاخرى... فلن يكون هناك تأثير حقيقي لأي من الوسائل الإعلامية في مجرى هذه الحملة، بغض النظر عن مقدرة وزراء الاعلام أو المختصين بالاتصال وقدرات تناولهم وتمكينهم.

بعضنا في الإعلام ومن خارجه يدرك أن الشعب يعرف ما يريد وأكثر من ذلك ما هو بحاجة إليه، خصوصاً الطبقات الكادحة والفقيرة ... والكل بالتالي يدرك أن ما من وسيلة لإقناع المواطنين بأن صفقات زيادة غنى الاغنياء أو سوء ادارة الازمات يمكن ان تمر على حسابهم أو باقتناعهم ورضاهم.

للإعلام اذاً دوره الواضح في خدمة الدولة أو الحكومة ولكن هذا الدور يتلاشى تدريجيا إذا كانت الدولة أو الحكومة لا تعرف أن استعمال أدوات الإعلام كالدواء يجب أن يكون مرتبطاً بالتشخيص الصحيح وبالجرعات المناسبة وإلا كان التأثير عكسيا.

"كيف نستعمل الإعلام أو نتعامل معه؟" يبقى السؤال الدائم الذي طرحته  الأمم والدول والجماعات والأشخاص منذ القدم وما نزال نبحث عن جواب له حتى هذه الساعة.

[email protected]