في الخامس ب

كان خريفَ العام 1991. ولدى العالم مشكلات كثيرة، الاتحاد السوفييتي كان يسقط عن الخريطة مثل لون مقشور، ويوغسلافيا أيضاً كانت تتآكل كقطعة الشواء الفاسدة، ومسمار حرب الخليج الثانية يواصل نَحْرَ الجدار، و”مؤتمر مدريد” بدأ مراسم نقل “الدولة” من وراء الخندق إلى أمام الطاولة. حدثت أيضاً مجازر تخص الإنسان وحده في جنوب وشمال العراق، وكثيرون كانوا يتجنّبون الموت بخبطه العشوائيِّ، لكنني حاولتُ استدعاءه في الليلة الأخيرة من تشرين الأول. جرَّبتُ أنْ أكتمَ أنفاسي، ولم أكرر المحاولة، خفتُ أن ترى أمي صورتي باللاصق الأسود على العينين في صحيفة “شيحان”، رجَوْتُ الله أن يُعجِّل بيوم القيامة، كأن يكون صباح تشرين الثاني على أبعد تقدير، فيفوتني امتحان القراءة باللغة الإنجليزية!اضافة اعلان
“الأستاذ سامي” بصفِّ أسنانه العلوي المصاب كاملاً بالتسوس، لم يكن يخيف أحداً في الصف الخامس ب، في مدرسة ابن خفاجة. أنا الوحيدُ الذي كنتُ أخشى أنْ يُطيلَ الضحك العطوف لي. كانت حصته الإنجليزية صاخبة، وفي مقعدي قبل الأخير، كنتُ أخفي رأسي لأتجنَّب أسئلته الموجهة إلى الطلبة الطيبين القليلين، هناك اتخذ الولد الأرنبيُّ الذي كنته قراراً أن لا يتعلم اللغة التي تتكلم بها بطلاقة مذيعة القناة الثانية، وظنَّ يقيناً أنه بصوته الأخنف الحادّ، بالكاد يُفهم المعلم ما يودُّ قوله بالمحكية الوسيطة، فكيف سيفهمه العراة في الساحة الهاشمية، وأيُّ مصادفة تاريخية ستجمعه بالكائنات الملونة في كتاب القراءة، وأيُّ حرب ستجعله يوماً يحاجج رجلاً عجوزاً يظهر بمواعيد دقيقة في نشرة الأخبار قبل تدخل “غالب الحديدي” بفصحاه غير المخدوشة. على ذلك المقعد راكمتُ خيوط العقدة، حتى تشكلت في فمي الناقص أول كلمة إنجليزية خارج المنهاج الملون: فوبيا!
لم تقم القيامة، فذهبتُ متثاقلاً إلى المدرسة التي من طابقين مهترئين وساحة ترابية، وحارس متواطئ مع الطلاب الذين استبقوا العلم بشوارب من زغب داكن. انغمستُ في المقعد، حتى اختفى رأسي، لكنَّ اسمي النونيّ جاء أخيراً قبل السمين “هاني”، وكان عليَّ أنْ أردِّد وراء المرأة الباردة حسياً في المسجلة القديمة جملاً حكيمة تعمّدتُ منذ بدء العام الدراسيِّ أنْ أتجاهلها، لكنَّني الآن أواجه “الأستاذ سامي” بفكه العلويِّ الذي ضربه السوس. دار صوت المرأة، مرة، ثمّ تعذّرت بأنني لم أسمع جيداً، وعاد صوتها مرة أخرى ببروده، وتحجَّجتُ أنها تتكلم بسرعة. أعاد الجملة ببطء، وبترها إلى نصفين. ابتعلتُ ريقي الحامض، ووضعتُ رأسي في الأرض، ونويتُ أنْ أبكي، لكنّ السماء أنقذتني، لم ترسل القيامة، لكنها أرسلتْ للأستاذ أقراص “الفلافل” بالشطة!
نفرتُ مُبكِّراً من كتابِ “الإنجليزي” المُلوَّنِ، وكانَ حرفُ “E” الذي يُشيرُ بالاختصار إلى درس لغة الأحرف اللاتينيَّةِ ضمن جدول الحصَصِ، ويكونُ عادَةً في ذيله، في الحصة السابعة تحديداً، يُثيرُ كآبتي، وشيئاً من القلق؛ وكنتُ أبرِّرُ ذلك لوالدي، فأستشهدُ بعبارَةٍ وردَتْ في مشهدٍ درامي أواخرَ الثمانينيَّات: تذهَبُ السيِّدَةُ “سميحة أيوب” إلى بلدٍ أجنبيٍّ للبحثِ عن ابنها. تسألُ عنه المارَّة أصحاب اللون الأشقر بالمحكيَّةِ المصريَّة، فيردُّونَ عليها بابتساماتٍ غبيِّةٍ، تجابهها بعصبية أُمٍّ طوى الغيابُ ابنها: “اشمعنى احنا نعرف لغتكم وانتو لأ!”.
ستصيرُ العِبَارَةُ حكْمَة لا تَقْبَلُ الشكَّ، فقد سَمِعْتُها من ممثلةٍ وقورَةٍ لم أشاهِدها في مشهد سينمائي مُخِلٍّ، كما تفعل النساء على القناة الثانية الناطقة باللغة الإنجليزية. لم أجِبْ عن ورقة الامتحان طوال أحد عشر عاماً، إلا بـ”لغتنا”، وسيتفهَّم المعلمون والمعلمات “فلسفتي” أو “عقدتي”؛ بل إنَّ معلِّمي في الصفِّ العاشر، “خالد أبو راس”، سيضَع لي العلامة النهائية لأنِّي كتبتُ، غيباً، قصيدةً عن “بدر شاكر السياب” بلغَةٍ عربيَّةٍ سليمَةٍ من الأخطاء، تحت سؤال يطلبُ كتابة موضوع إنشاء عن الشاعر المذكور، باللغة الإنجليزية، مع السماح بعشرة أخطاءٍ في القواعد!