في اللامركزيّة وجفاف الأطراف!

أهل "مكّة" ليسوا على الدوام أدرى بشعابها، كما يحلو لنا أن نكرر! فكثرة القُرب حجاب، والعادة مُحكمة خاصّة كانت أم عامة. ونعلم أن دوام الأحوال قد أصبح من المُحال، وأنّ الانفراجات والحلول تحضر عند التنقّل من حال إلى حال! وأنه ليس بالإمكان إحراز نتائج  جديدة بينما نقوم بتكرار العمل ذاته؛ إذ نحصل على النتائج ذاتها! اضافة اعلان
وعليه، فقد أصبح دوام حال العلاقة ما بين اقتصاد المحافظات واقتصاد المركز "عمّان" شيئا من المُحال. وقانون "اللامركزية" هو أكبر مشروع إصلاحي وواقعي مُقترح للآن، سيمسّ اقتصاد البلاد، وتنمية الموارد البشرية فيها. وهذه  خُلاصتي.
ففي قلب مُقترح اللامركزيّة رؤية! هي مثل مشهد بانوراميّ لبلاد مُمتدة بحجم الورد والطموح؛ لأراض عامرة نظيفة، ويا حبّذا خضراء، تزدهر فيها الإبداعات والصناعات والمجتمعات المحلية وهي تدير شؤونها بنفسها بمسطرة القانون. لكن  تنكمش هذه الرؤية ومعها الرسالة، شيئا فشيئا في رحلة الواقع بالطريق الصحراويّ المُمتد عبر إسمنت الجنوب مثل درب للآلام! وبمُضيّ الكيلومترات الرمادية وبمرور الوقت، يبتدئ المشهد العام بالانفصام حتى إصابة الأطراف بالجفاف. فيسود الجوّ والطريق خواء الفكرة، ووحشة البُعد وتصحّر الطرف، وتضيق الدائرة كثيرا!
يرتكز فكر اللامركزية الدولي اليوم على نظريّتي تحمّل المسؤولية وعنصر الإدارة، ولا ينطلق من فكر السياسة أو من فكر آخر معقد! ففيه يُشرف المركز على الطرف وهو يقوم بإدارة أموره بحرية عبر الميزانيات المُرصّدة له بالفلس، لغاية تلبية حاجات المجتمع اللصيق به. فيُعيل نفسه، تماما مثل أي عائلة ممتدة. وبتشكّل دوائر إدارية جديدة فاعلة، وجيل مُلهَم (Empowered Generation)، تبدأ الأطراف بالإنتاجية. وعندها، سيشهد المركز، وهو الذي ينوء الآن بحمله، حركة دورة عكسية؛ فينتعش الطرفُ ويرتوي بدماء جديدة. ولتتوزع النعم وينتشر النغم بوفرة اجتماعية، ومن دون مكارم أو محاصصات مُفتعلة. فيتحول الطرف إلى شريك بالنتائج، بدلا عن ثقافة إلقاء اللوم على مسؤول في مكان بعيد ما! وسنرى شركة مقاولات كبرى في المحافظات، وتجمّعات لمكاتب محاماة وهندسة، ولمصمّمين وأصحاب حرف، ومُصدرين لبضائع محلية إلى عمان ولندن أيضا! سنجد صالة عرض أفلام، ومحطات معرفة، ومكتبات ومراكز لشباب؛ يبنيها ويملؤها الشباب! كما سنرى عودة عائلات تقوم بتعمير الجامعة والمستشفى، ومركزا لكبار السن في المحافظات. وستخف أنواع الاختناقات على المركز! عشرون عاما، وسيختبر الشبابُ طعم الإنجاز؛ فيلمعون وهم يستشعرون خبرة ارتقاء السُلّم الاجتماعي من أماكنهم، في مدنهم وبواديهم وقراهم. وليُزيّن كل ذلك حدود آمنة.
ومن يجادل بأن اللامركزية مشروع صعب أو انفصاليّ، هو إداري سلطويّ. وقد شهد العالم العربي الكثير من هؤلاء، ما أفرز بحوثا ومجلدات في فكر الإدارة العربي وقدرته على الإدارة. واللامركزية هى إدارة واقعية، عكس اجترار الحلول بفوقيّة بعض المراكز وفزّاعاتها من بعيد! فلا يمكن للطرف أن ينفصل عن الجذر الذي يرتوي منه، أو للجذر أن يقطع الطرف الذي يتظلّل به.
في خطاب اللامركزية، نظرة قريبة إلى أردن ليس كلّه عمّان أو الدائرة الثريّة. ومن المفهوم أنّ الكعكة ستكبر بجهد صانعيها، ليأكل الجميع على تراب يرغب شبابُه أن يعيش فوقه، ويتوق أهله أنّ يُدفنوا فيه!