موفق ملكاوي
يرجع مفكرون ما تعيشه المنطقة العربية من تحولات عصيبة وواقع صعب مليء بالمفاجآت، كنتيجة لتهميش دور المثقف، وغياب العدالة الاجتماعية، وعقم المناهج التربوية والتعليمية، والى تفشي البطالة، وظاهرة عدم تطبيق القانون.
وإذا ناقشنا هذه الجزئيات، كلا على حدة، فسوف يتبين لنا أنها أفرزت، ليس فقط تخلفا اجتماعيا، وعجزا عن تحقيق التقدم والتنمية، بل تعدت نحو ظواهر خطيرة أثّرت في المجتمعات العربية، وأحيانا مزقتها.
تغيب العدالة الاجتماعية عن عالمنا، وفي جميع الجوانب، بدءاً من التعليم وليس انتهاءً بالتوظيف، لكن الأمر يصبح أكثر تمييزاً حين تتعلق “المكافآت”، على اختلاف أنواعها بـ”نُخب” أنتجها السياق المشوّه لسيرورة المجتمعات، والتي هي في الأصل نخب “فوق اجتماعية”، تتحكم في الثروة، وتوزع المكتسبات فيما بينها.
في موازاة ذلك، تمت السيطرة على التعليم وتحويله إلى “محو أمية قرائية” مهما كان نوعه، باستثناء تعليم نوعي بمساحة صغيرة جداً في بعض المؤسسات، وهو أمر جذّر من اللاعدالة الاجتماعية، فهذا النوع من التعليم لا يستطيع تحصيله إلا الطبقة الثرية التي أنشأت علاقات ومُحاصصات مع الطبقات الحاكمة.
سهولة الحصول على الشهادات الأكاديمية المختلفة، في موازاة عدم تحصيل المعرفة، وضعف التهيئة لسوق العمل، أنتج سياقاً اجتماعياً غارقاً في تقديس الشهادات الأكاديمية، من دون أن يعي أن ثمة تعطيلاً مقصوداً لأنواع أخرى من التعليم؛ الحرفي والمهني والتقني، يمكن أن يوفّر توازناً في أعداد الخريجين، وأن تقلص بالتالي من أعداد العاطلين عن العمل.
المعضلة الأساسية بهذا الأمر أن الخريجين يريدون العمل بتخصصاتهم، فهم لا يريدون التنازل عن ذلك، وحين تكون نسبة البطالة بين الشباب هي الأعلى، مقتربة من أرقام مقلقة، فهذا يعني بالضرورة أن القوى الأساسية للعمل معطلة، وغير قادرة على الإنتاج، ما يضع علامات استفهام كبيرة أمام إمكانيات تقدم عملية التنمية.
أما الجانب الآخر في تعزيز بنية التخلف، فيتجلى في غياب التطبيق الحقيقي للقانون، فمصطلح “سيادة القانون” يأتي فضفاضاً وتمويهيا واتقائيا، فهو حمّال أوجه، ويتم كسره من الطرفين؛ السلطة والمجتمع. السلطة تقوم بذلك من خلال كسرها للقواعد الدستورية التي تقول “الجميع سواسية أمام القانون”، ومن خلال المحاباة والتحيز في التطبيق، والمجتمع من خلال ممارسة نوع من “مقاومة اللاعدالة”، والتي تشعره أن بإمكانه تطبيق ما يراه “عدالة” بيده، أو تعبيراً عن “العصيان” وعدم الانصياع للسلطة التي يراها متعارضة مع حقوقه الأساسية.
ما سبق، إضافة إلى الممارسات الصورية للديمقراطية، والسماح بـ”حرية انتقائية”، وغياب المحاسبة، جميعها أدوات هدمت الاستقرار، وأثّرت في بنية توطين وتطوير المعرفة، وزعزعت الانتماء الحقيقي، ما هدد مفهوم الهوية برمته.
كل ذلك يقود إلى ضرورة حتمية لإعادة الاعتبار للثقافة بوصفها مرجعية فكرية وأخلاقية، وإلى المثقف بصفته منتجا ومؤطرا ومنظرا، وليس كما هي النظرة السائدة على أنه صوت نشاز، أو مصدر تهديد للسلطة. ومع ذلك، ولكي يصار إلى إعادة الاعتبار له، لا بد للمثقف العربي أن يكون مشاركا فاعلا في نقاش التحديات المجتمعية واجتراح حلول لها، لا أن يكون منظرا فوقيا، أو انسحابيا وسلبيا.
شيوع بنية التخلف هي وصفة سريعة للخراب، فلا يمكن أن تتقدم المجتمعات من دون أن تمتلك رؤية واضحة لمسارها المستقبلي، تحدد فيه واقعها اليوم، وتحدياتها على المدى المنظور، وأيضا خطوتها التالية لكي يكون لها وجود فعلي بين المجتمعات الأخرى.
الاستبداد السياسي، والطائفية، وغياب العدالة والتهميش وعدم وجود أمل للشباب، هي سمات مشتركة للمجتمعات العربية المختلفة، والتي، للأسف الشديد، تتأثر ببعضها بعضا، وتستدخل وتتبادل الممارسات فيما بينها، وهي ممارسات حتى اليوم، لم تستطع أن تتبنى أنموذجا تنمويا إصلاحيا، بل على العكس تماما، فمؤشرات حيوية مهمة كالتعليم والتنمية والحريات وحقوق الإنسان، هي في تراجع مستمر، من دون أن نستطيع تحديد قاعدة أساس للبدء بها من جديد.
هذه هي عناصر بنية التخلف المهيمنة اليوم في المجتمعات العربية، وإذا أردنا التقدم، فلا بد لنا أولا أن نفككها، وأن نجفف المنابع الأصلية التي تنطلق منها. تلك محددات وسمتنا بالتخلف، وهي تجد تعبيراتها في جميع السلوكيات الفردية والجمعية، وفي الفضاء العام، مجبرة المجتمعات على أن تظل رهينة المنظور القاصر لها. فهل سنغادرها يوما؟!
المقال السابق للكاتب
للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا