في حضرة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان

شكّل إقرار الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بداية مرحلة تاريخية مفصلية وجديدة في تاريخ البشرية؛ حيث انتقلت حقوق الإنسان من المعيارية المحلية إلى المعيارية العالمية؛ من خلال التوافق على ما يعدّ حدًّا أدنى لحقوق الإنسان. وعكست المادة الأولى من الإعلان الفلسفة الروحية التي يقوم عليها هذا الخطاب الكوني المنطلق من مبادئ الكرامة والمساواة والإخاء بين البشر. نحتفل هذا العام بيوم حقوق الإنسان وبإعلانه العالميّ في العاشر من شهر كانون الأول، وقد عانت البشرية من وباء كورونا المستجد، وحالة طوارئ عمّت أرجاء الكرة الأرضية، ووضعت قيم حقوق الإنسان وعالميتها على المحك، وكشفت الأحداث المتلاحقة عن اختلالات بنيوية في عملية الاستجابة المنصفة والعادلة للفئات جميعها، وأدرك العالم مكانة حقوق الإنسان التي تصنف ضمن إطار الجيل الثالث من هذه الحقوق، المعروف بجيل التضامن والتسامح. عبر بنا فيروس كورونا العديد من المحطات البشرية التي كان لها أثر كاشف بأنّ التفاصيل والأحلام التي تجمعنا واحدة بغض النظر عن التفاوتات والثروات بين دول العالم. وكان السؤال الأكثر إلحاحًا هذا العام، ما الذي وحّد شعوب العالم بين ليلة وضحاها وجعل الأحلام والانتكاسات والموت والحياة واحدة، ما الذي وحد التفاصيل بين الوجوه المتناثرة عبر العالم ووحد الألم والأمل؟ قد تبدو إجابة السؤال بديهية، وقد يبدو السؤال في لغة القانون والمنطق من باب لزوم ما لا يلزم، فالفيروس المستجد هو من صنع كلّ ذلك وأكثر، وهو من عاث فسادًا بأحلام الشعوب فوحدها ضده. إلا أنّ ما يطفو على السطح وما نراه عادةً يخبئ خلفه مكنونات عظيمة، وما وراء الأشياء هو الأجمل؛ فبين السطور وأعباء الحياة نسيت البشرية أنّ ما يوحدها حقًا هو الإنسانية، وهذا هو السر الكامن وراء عالمية حقوق الإنسان. فما يجمع الأفراد حول العالم يفوق ما يفرقهم، يجمعهم المصير المشترك وحتميته وحب الحياة والسعي لعمارة الأرض، يجمعهم الحب والرحمة، تجمعهم الأمومة والأبوة وأحلام مشتركة برحلة حياة سعيدة، يوحدهم سعي دائم للحق ونضال للتعبير عما يجول بخاطرهم دون خوف أو وجل وصولًا لحياة كريمة ونفوس تنطلق نحو الحرية. هذه الإنسانية هي سر عالمية حقوق الإنسان ابتداءً، وهي المحرك الذي قاد العالم نحو تقنين حقوق الإنسان العام 1948م من خلال إقرار الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق والحريات، حدّ أدنى إلا أنّه مشترك بين الإنسانية على اختلافاتها وتناقضاتها. ما يمرّ من أزمات لا يوحدنا بحدّ ذاته، فما يوحدنا موجودٌ راسخٌ فينا وفي إنسانيتنا الممتدة عبر المحيطات، ما يعبر ويعصف من أزمات هو هزةٌ للضمير الإنساني ليتذكر دوما أنّ ما يوحدنا ثابت لا يتغير والمتغير هو فقط فرضيات أخرى طغت وتطغى على ما فطرت عليه البشرية من تسامح وتعاضد وتعددية وقبول دون شروط ودون إطلاق أحكام. ما حدث مع انتشار فيروس كورونا المستجد والالتفاف الإنساني حوله، أعادني وراءً إلى العام 1945م عندما سطّر ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته مبررات إنشاء منظمة الأمم المتحدة وأهدافها في العبارات التالية: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، والتي خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.. وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معًا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالأمن والسلام...” ما أشبه اليوم بالأمس مع اختلاف في المعطيات بحكم تطور الزمان وتغير المقام والمقال، فشعوب العالم في تلك الحقبة عادت لتتذكر أنّ العيش المشترك هو السبيل لتخطي الأزمات. إذًا لم تأت بجديد أيها الكورونا المستجد سوى أنّ العالم كان بحاجة كعادته لهزة إنسانية تذكره أن القيم تبقى وما دونها إلى زوال.اضافة اعلان