في حضرة النيل

ترددت قليلا  قبل ان اقبل الدعوة التي وجهت لي للمشاركة في اجتماع الخبراء  العرب في شؤون الاسرة الذي تستضيفه الجامعة العربية، فانا لم اعد مغرما بالسفر كما كنت في العقود الماضية، ولم اكن  قادرا على تصور اوضاع مصر بعد الربيع العربي ولا حجم تأثير الاجراءات التقشفية وانخفاض قيمة الجنيه المصري على حياة المواطن الذي كان يعاني من سوء الاحوال الاقتصادية قبل هذه الاجراءات، اضافة الى انني لا ارى فائدة مباشرة للكثير من الاجتماعات والمؤتمرات التي يجري عقدها تحت عناوين واهداف وشعارات براقة، فالواقع العربي اصعب من ان تعالجه اجتماعات او مؤتمرات يجري التوافق في نهايتها على الحد الادنى مما يقبله الجميع، ويجري تجنب كل ما قد يزعج بعض الاطراف المشاركة او المهتمة.اضافة اعلان
مع كل ذلك، فقد عزمت على ان اشارك رغبة في ان اطل على الاوضاع في البلد الذي أكنّ لحضارته وتاريخه وشعبه الكثير من الحب والاحترام والتقدير، كيف لا وقد  تتلمذنا على كتابات العقاد والمنفلوطي ونجيب محفوظ، وأنصتنا طويلا الى قراءات عبدالباسط عبدالصمد، وتفاسير محمد متولي الشعراوي، ودرسنا كتب الساعاتي والسنهوري وعبدالرحمن بدوي وعبداللطيف فؤاد، وما نزال نستمع يوميا الى موسيقى عبدالوهاب واشعار احمد رامي وصوت ام كلثوم وعبدالحليم، فمصر واهراماتها وتاريخها ونيلها وعبورها ومسارحها وقصص افلامها واداء نجومها مكون من مكونات التراث الذي تستند له هويتنا وعنصر من عناصر وحدتنا الثقافية الممتدة على مساحة 14 مليون كم2.
لمصر شخصية وروح سرعان ما تستولي عليك وتتمكن منك لحظة مصادفتك لاول مصري على ارضها، فسرعان ما تجد نفسك مندمجا (متاخد) تتكلم اللهجة المصرية ومنخرطا باحاديث فيها من السرعة والخفة والدعابة ما يتجاوز كل الرتابة والتجهم الذي طالما هيمن على كيانك عبر مسيرة حياتك الاسبارطية القاسية.
في مصر، وبالرغم من قساوة الاوضاع الاقتصادية وتمكنها من الناس، هناك مساحة واسعة للامل والفرح تجدها جلية في مسيرة سيد مكاوي وعمار الشريعي اللذين لم تثنهما الإعاقة عن ان يقدما للذائقة العربية فنا يصعب ان تجد له مثيلا، كما تجدها في احاديث السائق الذي يستقبلك بابتسامة فيحدثك قليلا عن المعاناة التي تواجهها السياحة قبل ان يسترسل وهو يشرح لك بشغف عن حبه وتعلقه ببلاده  وجمالها واهلها ومرافقها ومواسمها وتاريخها.
 على جنبات الطريق الذي يأخذك من المطار الى قلب القاهرة تنتشر صور نجوم الدراما التلفزيونية التي تشكل مظهرا من مظاهر حياة المجتمعات العربية خلال شهر الصيام. وفي مصر ينتظر المصريون قدوم رمضان بخشوع وحب يعكسان الروح الايمانية التي ميزت وتميز المصريين.
  لا تعرف سببا مباشرا لحجم القناعة والرضا الظاهر على اقوال وافعال المصريين ايا كانت مواقعهم واحوالهم، لكن التدين الفطري الذي  يفيض بمفرداته على كل موقف تفاعلي قد يكون احد الاسباب وراء هذه الروح الراضية المرضية. ففي مصر لا تمر فقرة او ينتهي موقف حواري دون ان تسمع عبارة "ربنا اكرمني" او "بإذن الله" او "ربنا يخليك".
الحب الذي يحمله المصريون لبلادهم لا يضاهيه حب، والايمان ببلدهم ومستقبلها لا يساوره شك، والطريقة التي يستقبلون فيها الازمات ويتكيفون معها تبعث على التقدير والاعجاب، فقد تعاهدوا على ان يحملوا الايام بصبر وحب، فبالرغم من صعوبتها وقساوتها فإن فيها الكثير مما يستوجب الشكر ويبعث على الامل.
في حضرة النيل لا متسع للشكوى والتذمر والاستفزاز، فالأيام تجري مثل النيل؛ مياهه صافية تبعث الحياة. كنت اسأل نفسي وانا أطالع الناس واستمع الى احاديثهم وجملهم الدعائية وابتساماتهم: ماذا لو أن ما اصاب مصر أصابنا؟ كيف ستكون احوالنا؟  تذكرت سيد مكاوي وهو يصدح "أوقاتي بتحلو.. تحلو معاك"، وأبقيت أسئلتي مفتوحة بلا إجابات.