في ذكرى وصفي

أيًا كانت الادعاءات، سواء رصاصة واحدة من "قناص" عن بُعد، أو ثلاث أو تسع رصاصات، إلا أن النتيجة الحقيقية الوحيدة في ذلك هو استشهاد وصفي التل، أقوى وأشرس رئيس وزراء أردني، بشهادة الكثير.اضافة اعلان
رصاصة واحدة أو عدة رصاصات، كانت كافية للقضاء على بطل، قال عنه أحد ضباط جيش الاحتلال الصهيوني، بأنه من العرب القلائل الذي كان يملك مشروعًا عروبيًا قوميًا سياسيًا اقتصاديًا اجتماعيًا زراعيًا.
في ذكرى وصفي، الذي نحسبه عند الله عز وجل شهيدًا، لن أتطرق إلى صفاته الأكثر من رائعة، وقوة شخصيته القيادية والعسكرية والإنسانية، وأخلاقه، ومروءته، وانتمائه لوطن الصغير (الأردن) ووطنه الكبير (العربي) ووحدته.. فالكثير أشبعوا هذه الجوانب مقالات وتقارير وبرامج وندوات، من باب الصدق، وأن التاريخ ينصف دائمًا، حتى ولو جاء متأخرًا.
في الذكرى الثامنة والأربعين لاستشهاد وصفي، التي صادفت يوم أمس الخميس، فإنه ومن باب العدل والإنصاف عدم ظلم رجالات الأردن الذين كانوا جنب وصفي ومعه، في الفكر والإخلاص والانتماء، إذ كان الكثير منهم لديهم صفات شبيهة بصفات وصفي.
يقول رابع الخلفاء الراشدين، علي بن أبي طالب- كرّم الله وجهه-، مع فارق التشبيه، عندما سألوه لماذا "حل الاختلاف والابتلاء بالمؤمنين وقت خلافته، ولم تكن في أسلافه.. فأجابهم لأن من سبقني كنت أنا وأمثالي إلى جانبهم".
في الوقت الحالي، الجميع متيقن بأن الأردن بحاجة إلى تمتين الجبهة الداخلية، وعمليات إصلاح شاملة، وإعادة الثقة بين الشعب وأجهزة الدولة، وحل قضايا المواطنين في مواجهة الغلاء والبطالة والفقر، وضمان سيادة القانون على الجميع وبلا استثناء.
لكن، وللأسف، لا أحد يعمل من أجل ذلك، على عكس ما كان وصفي ورفاقه، حيث كان ديدنهم الإخلاص والانتماء للوطن والمواطن، لا يتطاولون على المال العام، ويحاربون الفساد والفاسدين بأيديهم وأرجلهم وأسنانهم.
كان وصفي يدافع دومًا عن العروبة وعن الأردن والأردنيين، وعن أرض فلسطين، فقد "كان يحمل مشروعًا نهضويًا عربيًا للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي ومشروعه الاستعماري".
والآن يمر الأردن، في أخطر المراحل، خصوصًا مع إعلان وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية مايك بومبيو بأن "المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية قانونية"، ومن قبل اعتراف واشنطن بالقدس المحتلة عاصمة للمحتلين الصهاينة، فضلًا عن ضم الجولان.
أما نحن، فلا نحمل أي مشروع على الإطلاق، وكل ما نستطيع فعله بنجاح هو الاستنكار والتنديد والشجب وخط بيانات مطولة، أقل ما يُقال عنها بأنها خجولة، يُراد بها باطل.. وفلسطين تُستباح، على بَكرة أبيها، من قبل عصابة إرهابية منظمة على شكل دولة، فلم يبقَ بيت في فلسطين الأبية إلا وفيه شهيد أو جريح أو صاحب إعاقة أو معتقل، جراء آلة البطش الإسرائيلية.
الآن، يتحدثون عن الزراعة وأهميتها، ولكن بلا تنفيذ أو وضع خطط قابلة للتطبيق، بل العكس يسرفون في تدمير هذا القطاع وبشكل ممنهج.. فالزراعة كانت على رأس أولويات وصفي، ويكفيه فخرًا أنه أول وآخر مسؤول منع البناء في الأراضي الزراعية، ليقينه بأن الزراعة لها دور رئيس في الاقتصاد الوطني وتأمين حياة كريمة للأردني.
عندما تنظر في مختلف أرجاء الوطن، المُبتلى، ترى بأن المدارس الخاصة قد غزته، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فما أن تلتفت يمينًا أو يسارًا، وإلا ترى مدرسة خاصة، همها الأول والأخير جني أموال طائلة، كانت سببًا في تراجع التعليم.. على عكس وصفي الذي رفض مجرد فكرة المدارس الخاصة، جملة وتفصيلًا.. والآن بعد نحو نصف قرن على رحيله، نتيقن صوابية قراره ذلك.
لست من دعاة الاعتزاز بالتاريخ وبرجالات الماضي، وبالأخص في مثل هذه الأيام، التي لا يشك أي كان بأننا أمّة مهزومة غير قادرة على زراعة أرض، أو إنتاج قطع في مصانعنا، إن وجدت أصلًا.. لكن نتذكر وصفي، لعل وعسى أن نغرس في أبنائنا حب الوطن والانتماء إليه وعشقه والدفاع عنه.. فالأخطار محدقة بنا من كل حدب وصوب.