في صيغة المقاربة الليبرالية!

 ثمة عملية تشويه متعمدة من قبل توجهات سياسية وفكرية أردنية للفلسفة الليبرالية بصورة عامة. ولعلّ الوقوف على خطاب بعض النخب القومية واليسارية، ممن لا يزالون يتمسكون بالمقولات التقليدية، يكشف عن مستوى كبير من الخلط والتحايل في بناء "صورة نمطية" غير دقيقة عن الليبرالية، لدى الشارع، سواء على المستوى السياسي والاقتصادي.

اضافة اعلان

خطورة "الصورة النمطية" التي تسعى هذه النخب إلى تكريسها حول "الخيار الليبرالي"، فضلاً أنّها ذات صيغة تعميمية وغير صحيحة منطقياً وواقعياً أنّها تحطم عنواناً مهماً يصلح لتحشيد الناس للمطالبة بنيل حقوقهم السياسية والاقتصادية.

المفارقة أنّ المحتجين على "الليبرالية" بصورة مطلقة، إمّا أنهم في خطاباتهم السياسية والاقتصادية يقعون في التناقض ويطالبون بتطبيق الليبرالية (الحديث عن الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية التمثيلية والشفافية وسيادة القانون..) أو أنّهم يطالبون بتطبيق نماذج ثبت فشلها على المستوى النظري والتطبيقي، ولم تجر على شعوبها سوى استبداد سياسي وتراجع اقتصادي وتخلف حضاري. فضلاً أن الظلم الذي يقع من تطبيق الليبرالية أقل وطأة بكثير من الظلم الناتج عن تلك النماذج.

الأغرب من هذا وذاك؛ أنّ نخبنا لا تزال تصر على خطاب انتهت صلاحيته، بينما التيارات اليسارية في اوروبا نفسها قامت بتطوير خطاباتها ورؤيتها السياسية والاقتصادية، وباتت أقرب إلى الخيار الليبرالي بصورته المعدلة (مراعاة الجانب الاجتماعي)، وإعادة إنتاج رؤيتها الأيديولوجية والفكرية.

حتى الدول العربية والعالمية ذات السمة الاشتراكية، التي تتغنى بها بعض النخب القومية واليسارية، فهي تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية، وتسعى جاهدة إلى التحول من مفاهيم تأميم وسائل الانتاج وممتلكات الدولة إلى الخصخصة والحرية الاقتصادية.

ولعلّ "التجربة الصينية" تمثل مؤشراً على نجاح الانفتاح الاقتصادي في مقابل تأخر الانفتاح السياسي، بينما لا تزال مجتمعات كوريا الشمالية وكوبا تعاني الأمرّين من التطبيقات القسرية للاشتراكية المتعانقة مع استبداد سياسي كامل.

على الصعيد العربي تسعى الدول العربية التي لا تزال تعيش بقايا المرحلة الاشتراكية إلى الانخراط في الاقتصاد العالمي والتحول نحو القطاع الخاص، لكن العملية ليست من السهولة الاقتصادية والإدارية والسياسية، ناهيك عن محاولة من يمسكون بالسلطة الإمساك بالقطاع الخاص الناشئ، بصورة ملتوية، باستثمار نفوذهم السياسي.

هذا لا يعني أنّ الحال أفضل كثيراً في الدول التي تبنت عملية الإصلاح الاقتصادي والتحول عن نموذج "الدولة الريعية" والعلاقة الزبونية إلى "اقتصاد السوق". لكن أغلب هذه الدول طبقت نموذجاً متطرفاً من الليبرالية (مرتبطاً بوصفات المؤسسات المالية الدولية)، كما أنّها طبقت بعض جوانب الليبرالية (اقتصادياً، اجتماعياً) وغيّبت الجانب السياسي الذي بات يشكل في التطبيقات الأخيرة أحد أهم مقومات الليبرالية.

أردنياً؛ فإنّ استمرار الحديث عن رفض الليبرالية والهجوم عليها وتجذير صورة نمطية مغلوطة عنها، لا يخدم بناء روافع للإصلاح السياسي والاقتصادي تسير بالمجتمع والدولة إلى الأمام، فضلاً أنه يختزل الليبرالية في نخب قد لا تكون الممثل الحقيقي لليبرالية، أو ربما تعكس صورة معينة من الليبرالية لا يجوز تعميمها على المدرسة بأسرها.

السؤال الأدق والأكثر واقعية هو حول صيغة الخيار الليبرالي في الأردن اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وفي هذا المجال سنجد أننا أمام مدارس مختلفة ومتعددة ومتباينة، لكنها تختلف في السياقات الإيجابية للاختلاف، ولا تشدنا إلى نماذج سياسية واقتصادية تسعى البشرية قاطبة إلى تجاوزها!

على المستوى الاقتصادي؛ فإنّ برنامج الإصلاح الاقتصادي قد حقق بالفعل، في السنوات الأخيرة، تقدما ملموساً، وقفز الناتج المحلي الإجمالي، وتم استقطاب استثمارات وتحسن طفيف في بيئة العمل، وازدهار في القطاع الخاص، وخلق لفرص عمل جديدة مع مساع لتجاوز ازمة الطاقة والغذاء العالمية. لكن في المقابل هنالك اختلال هيكلي كبير في هذا البرنامج، ولا تزال شرائح اجتماعية واسعة غير قادرة على التكيف معه، فأصبح عبئاً عليها وباتت عبئاً عليه، هنالك أزمة بنيوية يتعرض لها القطاع العام، وحالة تنذر بالترهل والانهيار، هنالك سؤال حول الاستقرار المالي وديمومته، مشكلة الاختلالات في سوق العمل، هواجس حول الأبعاد السياسية والاجتماعية للتحولات الاقتصادية وتساؤلات حول الشفافية والفساد.

فالحوار النافع وطنياً لن يكون في جدوى برنامج الإصلاح الاقتصادي ابتداءً، فهذا لا يعدو إهداراً للوقت وتشتيتاً للتركيز المطلوب. إنّما الاتجاه الأصوب للحوار، بتقديري، هو حول "إصلاح برنامج الإصلاح الاقتصادي" وتطويره لإحداث التوازنات المطلوبة في العملية الاقتصادية من جهة وبين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية- الاجتماعية من جهة أخرى، وفي كيفية دفع العملية التنموية بصورة متوازية مع النشاط الاقتصادي، وتجاوز أزمة المركز والأطراف.

على الصعيد السياسي؛ فمن الظلم القول إنّ الليبرالية قد أخفقت، لأنّ الليبرالية السياسية لم تطبق إلاّ قليلاً، وما يحكم الحياة السياسية بصورة كاملة هو "المنظور الأمني". في المقابل فإنّ الدعوى الليبرالية تدفع إلى تعزيز برنامج الإصلاح السياسي والحريات العامة وتجذير ملف حقوق الإنسان تشريعاً وممارسة، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وبناء روافد للحياة المدنية.

بالتأكيد هنالك اعتبارات عديدة في سياق الحديث عن الإصلاح السياسي، كالتقسيم الديمغرافي وارتباطه بالحل النهائي للقضية الفلسطينية، وكذلك الأبعاد الأمنية ومدى أهلية القوى السياسية وسؤال الإسلام السياسي. لكن يمكن صوغ مقاربة ليبرالية تأخذ بعين الاعتبار السير إلى الأمام بخطوات حذرة في جوانب وسريعة في جوانب أخرى. لكن ما حدث في السنوات الأخيرة أنّنا قطعنا إلى الوراء أشواطاً طويلة!

على الصعيد الثقافي- الاجتماعي؛ فإنّ المقاربة الليبرالية أمام تحدي الإجابة عن سؤال الدين والأخلاق والحريات الفردية والتعامل مع استحقاقات العصر، وهنالك اتجاهات مختلفة داخل المدارس الليبرالية في الإجابة عن هذه الأسئلة، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية.

في الخلاصة؛ قد تكون الليبرالية اليوم من أفضل البضائع المعروضة في سوق المقاربات والأفكار، لكن السؤال كيف يمكن بناء مقاربة تخدم المسار الوطني لا تشوهه؟..

[email protected]