في غياب ثقافة المؤسسة.. هذا ما يحصل

بينما كانت الجامعة الأردنية ساحة لمواجهة بالأسلحة البيضاء بين تجمعين طلابيين ينتميان لمنطقتين جغرافيتن في الأردن، كان البرلمان يشهد أول احتكاك في عهد المجلس الثامن عشر حول ما بات يعرف بالمكون الفلسطيني في الأردن.اضافة اعلان
بالعودة إلى أرشيف المواجهات الجهوية، و"الطوشات" الطلابية والسجالات البرلمانية الحادة، والمبارزات الإعلامية، يتضح بأن منابر السياسة والعلم والإعلام، كانت هي المنصات الدائمة والرئيسية لإثارة النعرات الإقليمية والجهوية، على خلاف ما يفترض من وظائف تنويرية ومدنية تنوب فيها عن عامة المجتمع، لصقل ثقافة التعددية والمواطنة المتساوية والمتسامحة، وقبول الأخر.ويمكن لنا أن نرصد المفارقة ذاتها في جميع مؤسسات الدولة؛ دولة العالم الثالث عموما وباستثناءات محدودة.
في الأردن لعبت"المؤسسة" دورا محوريا في بناء الهوية الوطنية بكل تجلياتها. لم تتجاهل الأصول والمنابت، لكنها نحجت في صهرها بوعاء وطني كبير.
كان انتقال الشاب الأردني من قريته إلى الجامعة، كافيا لنقل وعيه من دائرة اجتماعية وجغرافية ضيقة، إلى رحاب الوطن، فيغدو هذا الشاب بعد سنته الدراسية الأولى شخصا آخر غير الذي عرفناه من قبل؛ منفتحا، يتحدث بشؤون عامة، ويصادق شبانا من مختلف المحافظات.
وسائل الإعلام على شحها، وتواضع سقف حريتها، كانت تمثل إلى حد كبير النزعة الأردنية للحداثة، والهوية الجامعة. لكنها اليوم وفي عصر"التواصل الاجتماعي" تحولت لمنابر للكراهية، وتكريس الهويات الفرعية، والتحريض على الآخر.
امتدت الثقافة المحلية والمناطقية لكل مؤسساتنا. بمعنى آخر لم تعد تلك المؤسسات فوق المجتمع، بل صارت تعبيرا صارخا عن تناقضاته وصراعاته والأخطر ثقافته، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للدول.
لم يعد للجامعات مشروع ثقافي وطني، إنما هى في الواقع تجميع لثقافات "محلياتية" تحت سقف واحد، يأتي إليها الطالب مسنودا بعزوته، وعشيرته، وبروح الحارة والقرية والمخيم. وبنفس الروح نرسل ممثلينا إلى البرلمان، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، نستجمع قوانا عبر"جروبات" تجمع أبناء العشيرة والقبيلة والمنطقة الواحدة.
نحن على هذا المنوال منذ سنوات طويلة، ولم تفلح كل محاولات وقف الحالة المتدهورة. والأمر لايقاس بهدوء الجامعات وتراجع معدلات العنف فيها أو روح المودة التي تجمع النواب تحت القبة؛ فثمة مظاهر يومية لا نتوقف عندها تعطينا الدليل على أن حالنا من سيئ إلى أسوأ.
لقد بلغ بنا الحال حد القلق والخوف حين يأتي أحدنا على ذكر المكونات الاجتماعية، بعد أن كنا حتى وقت قريب نفخر بهوية وطنية جامعة، صهرت مكونات متعددة ومتنوعة، حتى غدت مثالا لمجتمعات أخفقت في المحافظة على تعدديتها.
نحن من جيل شهد لحظة الانكسار بعينيه، وراقب عن كثب انحدار المؤسسة الجامعية في الأردن؛ ليس على المستوى الأكاديمي، إنما تحولها من منصات معرفة إلى ساحات تجهيل، وتحطيم للجوامع الوطنية بين أبناء الوطن الواحد.
وعلى قول التونسي الشهير، هرمنا ونحن نبحث في أسباب الإنحدار وتشخيص المشكلات. وقد أمضى باحثون جادون أياما وليالي في وضع حلول متدرجة لاحتواء التدهور، واستعادة زخم المؤسسة وثقافتها، لكن دون جدوى.