في مديح الكذب

معاذ بني عامر

بموازاة أنظمة أخلاقية ودينية واجتماعية نظرت نظرة سوء إلى الكذب، بصفته مثلبة مشينة، يمكن أن تؤثّر ليس على السلوك البشري اليومي، بل وعلى النُظُم الذهنية الضابطة لهذا السلوك، مع ما احتملته هذه الأنظمة الأخلاقية والدينية والاجتماعية...الخ، من جدلٍ حول طبيعة الكذب وإدانته، وفقاً لمواضعات هذه النُظُم لهاته القضية الحساسة والمُؤرّقة، على المستويين الداخلي والخارجي، فالصرامة الداخلية تجاه قضية الكذب قد تُنتهَك من داخل المنظومة ذاتها وفقاً لاعتبارات شتّى، لا سيما إذا ما تحقّقت مصلحة هذه النُظُم أو أحدها بموجب كذبة من الكذب، ساعتها يصبح الكذب مأثرة مُستحبة، لا مثلبة مُستقبحة كما اصطُلِحَ عليها أساساً، بما يدخل المرء في حالة من التعويم والتهويم، لقضية تضغط ليل نهار على مسلكياته الحياتية.اضافة اعلان
بموازة أنظمة صارمة حلّلت الكذب وفقاً لمصالحها وحرّمته وفقاً لمصالحها أيضاً، ثمة كذب من نوع آخر؛ أمكنني الاصطلاح عليه بـ"الكذب اللذيذ"، بصفته ينسجم مع المُكوّن السيكولوجي للإنسان المأزوم بتجريةٍ وجودية مؤلمة، ابتداء من لحظة ميلاده وليس انتهاء بموته، لا سيما مع تلك الأنظمة التي تَعِده بعذابٍ شديد في عالَم ميتافيزيقي، تحديداً إذا خرق نواميس تلك الأنظمة ولم يمثل لأوامرها امتثالاً كُلّياً.
بإزاء هذه التجربة المؤلمة، تجربة الوجود الإنساني في هذا العالَم، وما يرافقها من عذابات دائمة ومتواصلة، ابْتُكرِت أداة الكذب –عُرفاً ضمنياً لا ابتكاراً قانونياً يقوم على نصوص ثابتة ومُحدّدة- ليُحافظ المرء على نوعٍ من التوازن النفسي في علاقته بالوجود وموجوداته. ولقد اقترن هذا الكذب الذي اصطلحتُ عليه بـ"الكذب اللذيذ" بالفرح في أغلب الأحيان، فإشاعة الابتسامة وما يرافقها من جذلٍ وحبور على المستويين الداخلي والخارجي، أسَّس لهذا النوع من الكذب، الذي مُورِس تاريخياً من قبل الأم بإزاء أطفالها ومن قبل الأبناء بإزاء آبائهم، ومن قبل الأدباء بإزاء قرائهم... إلخ، لحلحلة حالة الصرامة التي يضطلع بها الإنسان ليل نهار، ويؤدي واجباتها كما لو كان جندياً باسلاً، واقتطاع جزء ولو يسير من وقته الرصين، ليتحايل على منظومة الكَبَد التي تطبع الإنسان بطابعها الأصيل من أول زفرة يزفرها وحتى شهقته الأخيرة.
فلطالما كذب "توم سوير" في رائعة "مارك توين" التي عنونها باسم بطله، ولقد كان لهذه الكذبات دور رئيسي في تعزيز محبة القارئ لـ"توم سوير"، فهو يكذب ليُجمّل الحياة، ويضفي على صرامتها نوعاً من الأريحية الطفولية، بحيث لا تغدو سلسلة الأحداث اليومية سلسلة من الحلقات المُرعبة، بل ثمة حلقة تكسر هذه الرتابة المميتة، وتمنحها لذّة فرائحية، تنعكس إيجاباً على الإنسان، الذي يستشعر غبطةً وسعادة إزاءها، تدفعه ليُعارك الحياة ويعيش دورتها المُهلكة، لعلمه أن ثمة توازناً سيكولوجياً خلقته كذبة صغيرة، يمكن اللجوء إليها أو إلى شبيهاتها في حال دفعت الحياة باتجاه ضغطٍ جديد.
ولطالما كذبت "آن" بطلة رواية (آن الجملونات الخضراء) لـ "لوسي مودمونتغمري"، فحوّلت الحياة إلى أمثولة جميلة، تنبغي أن نعيشها، رغم علمنا بقساوة الشرط المبدئي الذي طبع عليه الإنسان في الأصل. فالقارئ يتمنّى أن يدخل إلى نصّ رواية (آن الجملونات الخضراء) ويصير جزءاً من أحداثها، حتى لو كان أحد ضحايا "آن"، فهو ساعتئذ يصير أسعد ضحية في العالَم، بفعل كذبة طالته شُعلتها الصغيرة، فاشعلت فيه جذوة الحياة الجميلة، ولو لهنيهةٍ من الوقت.
وليس مستغرباً أن يصف "مارك توين" صاحب رواية (توم سوير) "آن" بأنها أفضل ثرثارة في العالم، فثرثراتها وكذباتها اللذيذة ستلتقي مع ثرثرات وكذبات "توم سوير" اللذيذة هي الأخرى، ومعاً سيضفيان نوعاً من البهجة على حياتنا، حتى نحن من نتموضع خارج النصّ، فذلك التضخيم للأحداث أو تحريفه أو نسفه من الأساس واستبداله بأحداث أخرى، لن يكون مضاداً للحالة الإنسانية في تجلّياتها الخيّرية، بل هو رافد لها - لأنه يشتغل سواء أَوَعى الفاعل ذلك لحظة الفعل أو تمّ تأطيره لاحقاً من قبل القارئ- ومُعزّز لها، ليس لأنه يبثّ أملاً كاذباً لدى الناس، بل لأنه يعدهم –هذا الوعد سيأخذ بُعداً جاهزاً لحظة الكذب اللذيذ هنا والآن، أو الوعد بشبيهه في الزمن المستقبلي- وعداً قابلاً للتطبيق فوراً. ولكم أبدعت العرب ساعة قالت: "أعذب الشِعر أكذبه"، نظراً للحمولة المعنوية التي تحملها هذه المقولة، فالشِعر الذي يُنافي الصدق الأخلاقي، الصارم، الميتافيزيقي بمعنى من المعاني، هو شِعر يعي شرط الألم الإنساني عند جذوره الأولى، ويسعى إلى تطمين الإنسان –ولو لبعض الوقت- بكذبٍ لذيذ، سيُجانب الصدق المُتعارف عليه، لكنه لن يسعى إلى التسبّب بأذى للإنسان، كيف لا وهو واعٍ تماماً بحالة الألم الإنساني، وهو الساعي إلى الحدّ منها، ليس بأملٍ موهوم، بل بكذبٍ لذيذ، سيعي المرء كذبه، لكنه سيسعى إلى مدحه –عبر تمثّله ذهناً أو تطبيقاً-، فهو في حالة استرخاء من قسوة الحياة الرتيبة.
انظروا ما أكذب قول المتنبي:
بِمَ التعلّل لا أهلٌ ولا   وطنُ     ولا نديمٌ  ولا  كأس   ولا سكنُ
أريدُ مِنْ زمني ذا أنْ يُبلّغني     ما ليس يبلُغُهُ من نفسِهِ الزمنُ
لكن، أيّ كذب أعذب من هذا الكذب، الذي لا يُساعد المرء على الحياة، بل يشعر بغبطةٍ كبيرة وهو على أعتاب ولوج رَحِم بديل ولذيذ، بدلاً من العالم القاسي الذي يعيش تفاصيله لحظة بلحظة، لكن لحظة القراءة هذه تُشكّل استعاضة سيكولوجية تمسح على جبين الإنسان المُرهق، فتجعله يبتسم لوعدٍ آني.
وانظروا ما أبدع الكذب في مقامات بديع الزمان الهمذاني، فنحنُ نستمتع بالكذب ونمجّده لأنه يُعيننا على الحياة ويجعلنا أكثر قدرة على مواجهة تبعات القسوة التي تطبع عالمنا الجاد.
وانظروا ما أبدع كذبات الأطفال، ساعة يُحرّفون الكلام والأحداث والحقائق، فنسعى جاهدين المرة تلو الأخرى، لاستثارتهم لتكرار كذباتهم، فحالة الوعي بفعل الكذب، ستعزّز مقدرة الإنسان على مواجهة مصيره المأساوي في هذا العالَم، وتدفعه إلى استحضار أحداث من شأنها المساهمة في تلطيف درجات حرارة هذا المصير الكارثي.
وهكذا، نحنُ أمام نوع آخر من الكذب، كذب لذيذ، أو كذب فرائحي، ما يزال التنظير فيه قليلاً، أمكن الانتباه إليه وتعزيز مسلكياته، ليكون أداة في يدّ الإنسان، لكي يصبح أكثر احترافية في تحسين شرط وجوده الإنساني، ونقله من طور المأتمية إلى طور أقل حدّة، لكن دونما إيذاء للآخرين أو تعريضهم لهزءٍ أو سوء، من شأنه الإضرار أكثر من النفع والفائدة.