في مناجاة برد الفقراء!

ليس كمثل الليالي الباردة في بلادنا ما يكشف حجم الهشاشة المعيشية والاجتماعية والانسانية التي بات أغلب الناس بمجتمعنا يرزحون تحت نيرها. في الليالي شديدة البرودة التي مرت علينا خلال المربعانية الحالية والتي تودعنا بعد غد الأربعاء، تكتشف كم حفرت الأيام والسياسات الاقتصادية والمالية خلال السنوات القليلة الماضية في عظام الناس، وكم خلفت وراءها من معاناة.. قاسية بقساوة نقص الدفء بمواجهة الأجواء القارسة. هي فرصة رحبة وطويلة لمناجاة البرد.. والفقر والتراجع المعيشي للناس أيضا. في هذه الليالي، التي جاءت هذا العام أكثر برودة و"نشافا" تظهر صورة الفقر والحاجة وقلة الحيلة عارية على جدار عار أمامك، وانت تستحضر بمخيلتك عشرات الاف العائلات التي تعاني الأمرين لتأمين بعض الكاز والدفء لمنازلها، بعد أن بات وقود التدفئة، كازا أو غازا أو حتى حطبا، يحتاج الى موازنة مستقلة للأسرة التي لم تعد بقادرة على مجاراة تأمين باقي متطلبات الحياة من غذاء وكساء وعلاج وتعليم ونقل! على مدى أيام المربعانية وبرودتها الشديدة كان لسان أغلب الناس هو الشكوى من ارتفاع كلفة التدفئة على العائلات، بل واكتفاء شرائح واسعة من المواطنين بالحد الأدنى من التدفئة لعدم القدرة على توفير وقود هذه التدفئة بصورة كافية، بعد ان باتت اسعار الكاز والغاز والكهرباء فوق طاقة الغالبية، وبعد ان قضمت السياسات الاقتصادية والمالية الرسمية المتوحشة على مدى سنوات قدرات ودخول أغلب المواطنين. حتى من يعتقد البعض انهم ما يزالون مصنفين ضمن الطبقة الوسطى، ممن تمتلئ بهم شقق اسكانات عمان، فالدفء ببيوتهم، المرهونة في أغلبها للبنوك وقروضها والتي يجاهدون لدفع اقساطها الشهرية من اساسيات حياة عائلاتهم في حده الأدنى، حيث تتقاسم العائلة الواحدة مدفأة أو اثنتين لتدفئة غرف المنزل التي باتت كمنازل الاسكيمو وموسكو ببرودتها ومعاناتها. دع عنك ما تكشفه هذه الشقق "الحديثة" والمرهونة من اهمال منشئيها لعمليات العزل الحراري لها، ما يفاقم من حرارتها صيفا وبردها شتاء، فقط ليوفر مستثمروها هامشا ربحيا اكبر بتقليل كلف الانشاء! في البرد ولياليه القاسية توقن كم هم مساكين الأردنيون، وهم يجاهدون لتوفير تدفئة في حدها الأدنى لمنازل وعائلات لم تعد قادرة على مجاراة وملاحقة تصاعد مؤشر تكاليف المعيشة وتآكل الدخول وقلة الحيلة. في هذه الليالي لن تغادر مخيلتك الاف العائلات الفقيرة التي تعجز عن تأمين أقل القليل من الكاز لتدفئة اولادها، الى الدرجة التي بت معها ترى مواطنا يقف بعبوة بيبسي فارغة، بلتر او لترين، في محطة وقود لشراء وجبة وقود لمدفئته. ولم يعد غريبا خلال السنوات القليلة الماضية أن ترى أن فاعلي خير ومحسنين باتوا يستعيضون عن مساعدات الغذاء والكسوة للعائلات المحتاجة، بوقود التدفئة شتاء، بعد ان بات تأمينه صعبا جدا على الكثيرين. في الليالي الباردة والقاسية لا يطاوعك عقلك لتطالب الحكومة بحلول لمساعدة الناس والفقراء لمواجهة هذه القسوة الطبيعية، فهي وللأسف لا تتقن سوى الجباية ونهجها لا يلتفت كثيرا للاضرار "الجانبية" لسياسات تحرير السلع والخدمات! لا يبقى سوى المجتمع وقدرته على التكاتف والتكافل الاجتماعي، وضرورة ان يطور آلياته وادواته لاغاثة الاف العائلات التي لا تستطيع تأمين الدفء لاطفالها. والله المستعان.اضافة اعلان