أفكار ومواقف

في وداع طبيب الفقراء

فجأة، اكتشف الأردنيون أن ثمة من يعمل بصمت، زاهدا بالأضواء وبتسجيل النقاط، وأنه يعمل من أجل الإنسان أولا وأخيرا، لا من أجل تحقيق أي هدف شخصي.
ظهر الجمعة، تجمع أكثر من 10 آلاف شخص في مدينة إربد في وداع الطبيب رضوان السعد، وقد كان شبه استفتاء على شخصه وعلى عمله في مخيم إربد مدة أربعين عاما، ظل خلالها منحازا لضميره الإنساني والمهني، وللقسم الذي أبرّ به بعيدا عن كل ما من شأنه أن يشوش الرسالة التي اختارها لنفسه في الحياة.
منذ مساء الخميس؛ بدأت منشورات الأردنيين تظهر تباعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم ينعون الراحل السعد، مطلقين عليه أكثر الصفات إجلالا واحتراما، خصوصا لقب “طبيب الفقراء”، والذي كان قاسما مشتركا في جميع المنشورات. الناس الذين لم يكونوا عرفوا الراحل ولا سمعوا عن تجربته الممتدة، بدؤوا بالبحث على محرك “غوغل”، ليكتشفوا أنه ما من معلومات كثيرة عن الرجل الذي ظل زاهدا بالإعلام والأضواء طوال حياته.
لكن، حين تغرق مدينة كاملة في الحزن وهي تودع أحد أبنائها، فإن ذلك يعطي مؤشرات لا يمكن تجاوزها، فالرجل الذي اختار مخيم إربد مكانا لعيادته قبل أربعين عاما، لتكون بذلك أول عيادة في المخيم، كان يعي تماما ما يفعله، فقد أراد العمل إلى جانب الفقراء والمهمشين، وأن يكون عونا وسندا لهم في الحياة.
كشفيته كانت بربع دينار، واضطر أن يرفعها إلى دينار واحد بعد شكاوى عديدة تقدم بها زملاؤه الأطباء إلى نقابتهم. أما الدواء، فقد كان يختار الأدوية الفعالة ذات السعر المنخفض، ولا يأبه كثيرا بـ”جوائز” مستودعات الأدوية التي تحرص على “مكافأة” الأطباء الذين يسوقون الأدوية الخاصة بها.
أحيانا كثيرة، كان الزائر إلى عيادته يحظى بالكشفية والدواء مجانا، فالرجل الذي وضع هدفا واضحا نصب عينيه، كان مصمماً على السير في الطريق المؤدي إليه حتى أقصى نقطة، وأن يظل سندا للفقراء والمعوزين، باذلا في سبيل ذلك كل ما يستطيع من أجل أن يكون لوجوده معنى في حياة من اختار العمل معهم ولأجلهم.
قبل عام تقريبا، تحدثنا؛ الصديق حازم الخالدي وأنا بقصة “طبيب الفقراء”، وتناقشنا بشخصيته ومبادئه التي لم يتزحزح عنها. وقبل يومين كتب الخالدي على صفحته على فيسبوك، نعيا للطبيب، وعن علاقته به، وكيف أنه كان يرفض دائما أن يظهر في الإعلام خوفا من أن تفتح العيون عليه، ويصبح مضطرا إلى رفع كشفيته بما لا يطيقه الفقراء والمحتاجون.
من الجيد أن بلدية إربد قررت أمس أن تسمي شارعا باسم الطبيب الراحل الذي بكاه كل الشمال. ولكن ذلك لن يزيد أو ينقص من قدر السعد، فإن إردتم أن تعرفوا مكانة الراحل، فقط انظروا إلى مواقع التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين لتعرفوا مساحة الدموع التي ذرفت على رحيله.. وانظروا إلى الآلاف الذين خرجوا لوداعه. هذا هو نموذج رجل الدولة الذي نريد.. هذا هو مثال الرجل العام ذي الاستقامة والهدف والرؤية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock