فِطام حان وقته

في كلمة افتتاحية لـ"القمة العالمية للحكومات"، التي انعقدت في دبي، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما: "عندما تستثمر الحكومات في مواطنيها وتعليمهم ومهاراتهم وصحتهم، وعندما تحترم حقوق الإنسان، فإن الدول تصبح أكثر سلاماً وازدهاراً ونجاحاً". وقال أوباما: "الذين تبنوا الإصلاحات واستثمروا بحق في حياة شعوبهم، سيبقون شركاء وأصدقاء للولايات المتحدة".اضافة اعلان
عدم قدرة القوى الإقليمية على الفِطام عن الدعم الغربي، الأميركي خصوصاً، تعبيرٌ مجازيٌّ عن ضرورات مُلحّة تستوجب نشوء قوة أو قوى إقليمية مستقلة ذاتياً في قدرتها على إنتاج وقائع سياسية وأمنية مختلفة عن تلك التي أنتجها الجانب الغربي في منطقتنا. غياب التوازن في هيكل القوى الإقليمية الآخذ بالتشكل في المنطقة، مرده إلى أنّ الفراغ الذي يتركه الأميركيون بتخفيف ثقل حضورهم، لا يُملأ بطريقة تُوحي بأنّ استقراراً موعوداً ينتظر الشرق الأوسط.
حركة الفاعلين الإقليميين المتضررين من السلوك الإيراني أو الإسرائيلي أو الروسي في منطقتنا، لا تركّز على ما للشعوب من دور أساسي في إنتاج واقع مختلف عن ذاك الذي يريده الإيرانيون أو الروس أو الإسرائيليون للمنطقة. كانت هذه الأطراف الثلاثة الأخيرة أكفأ في التكيّف مع التراجع الأميركي عن الشرق الأوسط. الخليجيون والأتراك كانوا أقل تكيفاً مع سعي واشنطن إلى فك ارتباطها بالمنطقة وإعادة تعريف علاقاتها بدولها في شكل مختلف عن المعادلة التي حكمت علاقة أميركا بمنطقتنا ودولها، طيلة عقود. وإعادة التعريف هذه تطال إسرائيل، الحليفة الأوثق لأميركا؛ إذ تؤكد مراكز أبحاث مرموقة أن الإجماع الأميركي حول إسرائيل آخذٌ بالتفكك مع بدء ظهور تباين بين السياسات المحلية الإسرائيلية والسياسات المحلية الأميركية، من دون أن يعني ذلك انهيار الشراكة الأميركية-الإسرائيلية.
كفاءة الدول تُقاس في جانب أساسي منها بمدى قدرتها على إنتاج سياسات بديلة، وتوقع واستشراف السيناريوهات المحتملة وتبني الأنجع منها؛ هذا مضمون عقل الدولة الاستراتيجي في مفهومه الحديث. استبداد روسيا وطائفية إيران وعنصرية إسرائيل، لا ينبغي أن تمنع الدول العربية عن النقد الذاتي والاعتراف بأنّ ثمة قصوراً يستدعي المراجعة في هذا المضمون، بقصد التركيز على إنتاج مصادر القوة الذاتية بدلاً من الاكتفاء بذكر عناصر ضعف الخصم، على المدى المتوسط والبعيد. انتقاد عنصرية إسرائيل وبشاعة استيطانها واحتلالها، لن ينتج وحده واقعاً آخر. معنى ذلك أن الاستبداد الأسدي أو البوتيني أو الإيراني لن يقاومه سوى نجاح عربي في إنتاج النماذج الناجحة في التنمية والحوكمة والمواطنية المتساوية، والاستثمار في الإنسان والمعرفة والحرية.
هذه العناصر، إلى جانب السياسة الخارجية الكفؤة، هي ما يجعل التدخل الإيراني أو الروسي، بالشكل الذي يتم في سورية، أكثر كلفة على الدولتين. النظام الإقليمي الذي ينشأ مع التراجع الأميركي في المنطقة لا يرتدع على وقع ضغوط أخلاقية أو إنسانية، بل يرتدع مع زيادة كلفة تدخله وبطشه، وارتفاع هذه الكلفة مصدرها ذكاء دبلوماسي وحصانة داخلية تقوم على التفوق على الخصم تنمية ومعرفة وحرية، أي إنتاج شعوب بهوية وطنية تستعصي على الطائفيين والمستبدين وعدوانهم وتدخلاتهم. المفارقة أن هذه المقاربة لن تنتج فقط عناصر ردع ذاتية من شأنها أنْ تُخفف مشاعر المظلومية وأفكار المؤامرة، بل هي أيضاً مدخل واسع وأساسيّ لإدراك مدى قوة أميركا وانفتاح المجال أكثر فأكثر لمخاطبة هذه القوة، للعمل بكفاءة أكبر لمصلحة قضايانا. هذه طريقتنا في إخراج أميركا من انكفائها، وهذا ما ينبغي أن يكون مشروعنا لإقناعها باستخدام جزء من قوتها الجبارة لخدمة سلمنا الإقليمي. استراتيجية الفِطام لا تنطلق من شعور مرَضي بـ"خيانة الغرب"، بل هي طريقتنا لخدمة أنفسنا، والاكتشاف المتجدد لقدرة أميركا، بدلاً من الاكتفاء بهجاء التلكؤ الأميركي عن التدخل.