قراءة في "مذكرات ثلاثة أرباع قرن" ليوسف العظم

   تعد المذكرات إحدى المصادر التاريخية، التي ينبغي التعامل معها، بحذر ورويّة، لأسباب معروفة. ومذكرات الأستاذ العظم تكتسب أهميتها، من مكانة صاحبها، في العمل السياسي والفكري ،في الأردن، في النصف الثاني من القرن العشرين، فهو نائب معان لثلاثة عقود، وهو وزير التنمية الاجتماعية لمدة وجيزة، وهو أحد الرموز الدعوية والفكرية والسياسية للحركة الإسلامية في الأردن، فكان الداعية والبرلماني والتربوي والشاعر والسياسي، الذي دخل في دائرة الضوء، ومركز الحدث، وخبر الحياة الأردنية بتفاصيلها وعجم أعوادها بيديه.

اضافة اعلان

     لم يقل الأستاذ العظم، بأن هذه المذكرات، سجل كامل لحياته الحافلة بالعطاء، والزاخرة بالأحداث، ولم يقل، بأنها تمثل، كل ما في جعبته، من معلومات وآراء، وكل ما مرّ به، من تجارب وخبرات. وقراءة هذه المذكرات، يؤكد ذلك، فمن غير المعقول، أن هذا كل ما لديه، ومن هنا، فإن القارئ مدعو للتفكير، في نوعية المعايير والأسس، التي اعتمدها الأستاذ العظم، في التمييز بين المباح، وغير المباح، وفي تحديد ما يمكن أن يُقال، وما لا يمكن قوله، ومن حق المرء، أن يتساءل عن الحقيقة الغائبة، عندما يلجأ كاتب المذكرات – أياً كان – لتطبيق مقولة، أمير المؤمنين، علي كرّم الله وجهه: "ليس كل ما يُعرف يُقال، ولا كل ما يُقال يُنشر، وليس كل ما يُنشر جاء أوانه، ولا كل ما يُنشر حضر أهله.."،خاصة إذا كان المسكوت عنه -أحيانا- ينسف المعلن عنه جملة وتفصيلاً .

     ومما يسترعي الانتباه في هذه المذكرات، أنها أغفلت الحديث، عن جملة قضايا وأحداث هامة، عاصرها الأستاذ العظم، أو شارك فيها، أو- من المؤكد- أنه كوّن موقفاً حيالها. وهكذا، تكون نسبة المسكوت عنه كبيرة، فكيف يمكن قبول، ألا يتحدث الأستاذ العظم- على سبيل المثال- عن أحداث معان المتكررة، منذ عام 1989، ولا يوضح لنا دوره فيها، أوموقفه منها، ورؤيته لأسبابها، ورأيه في كيفية الحيلولة دون تكرارها. والأستاذ العظم، لم يتحدث بشيء عن أحداث كثيرة وهامة عاشها، كبرلماني وسياسي أردني بارز، عبر النصف الثاني من القرن الماضي، ولم يقدم رؤية تحليلية، يقيّم فيها تجربته البرلمانية والوزارية والحزبية، ولم يحدثنا، عن رؤيته لما شهده التيار الإسلامي، من حراك فكري وتنظيمي، خلال العقدين الأخيرين، وما عرفه من تحوّلات، وما مرّ به من محطات بارزة، وما واجهه من تحديات، كمالم يقدم لنا، خلاصة تجربته في العمل الصحفي، في "الكفاح الإسلامي"،على سبيل المثال.

      وعلى الرغم من كثرة المسكوت عنه، وأهميته، فإن هذه المذكرات، تقدم معلومات هامة، ومفيدة تخدم المؤرخ، الذي يتصدى، لكتابة ملامح الحياة السياسية والاجتماعية، في الأردن المعاصر، وتضع بين أيدي الأجيال الأردنية الشابة، خلاصة لمسيرة حياة كفاحية طويلة، تحيي في نفوس الشباب الأمل والثقة ببلدهم وبأنفسهم، فهذه المذكرات تؤكد حيوية المجتمع الأردني، الذي عرف عملية حراك اجتماعي حقيقية، أتاحت للشاب يوسف العظم، بعمله وكفاحه، أن ينتقل من حارس عمارة، إلى وزير ونائب للأمة، لعقود طويلة.

      وقبل الشروع في التوقف، عند بعض القضايا الواردة، في هذه المذكرات، فليسمح لي أستاذنا الكبير؛ الإشارة إلى أن هذه المذكرات، كانت ستخرج في حلة أبهى وأجمل، لو خضعت لعملية تحرير، تخلصها من التكرار والتداخل، وانعدام التسلسل المنطقي والتاريخي.

*الانتخابات النيابية :
      ذكر الأستاذ العظم أنه ترشّح للانتخابات في عام 1956، ولم يحالفه الحظ، بسبب الدور، الذي قام به المرحوم بهجت التلهوني، رئيس الديوان الملكي آنذاك، لإنجاح قريبه  ثروت التلهوني. وهذا لا ينسجم مع ما هو شائع عن نـزاهة انتخابات العام 1956، التي أوصلت عددا من رموز المعارضه إلى البرلمان، ومن بينهم أربعة نواب ،عن جماعة الإخوان المسلمين ،كان من بينهم، المراقب العام، الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة، إلى جانب عدد من الوطنيين الاشتراكيين، والقوميين، واليساريين، والتحريريين. وقد ذكر هذه الحادثة مرات عدة، وبتواريخ مختلفة تارة 1956، وتارة 1958، وتارة 1959، علماً بأنه لم تجرِ انتخابات في العامين 1958 و 1959.

      ولكن الأستاذ العظم لم يُفسّر لنا عدم دخوله المجلس النيابي التالي، وهو المجلس السادس (1961 – 1962) بالرغم من أن التلهوني غادر موقعه. كما لم يفسّر لنا ظروف نجاحه في انتخابات المجلس النيابي السابع (1962 – 1963)، والتي جرت في ظل وزارة بهجت التلهوني!؟ كما لم يفسّر سبب غيابه عن المجلس النيابي الثامن (1963 – 1966)، وهل السبب هنا، هو عودة بهجت التلهوني لرئاسة الديوان الملكي مجددا (1963 – 1964)؟

* الثورة العربية الكبرى :
      يقول الأستاذ العظم "تسلّل (لورنس) الضابط الإنجليزي إلى جيوش الثورة العربية الكبرى ضد الإنجليز، التي كانت سبباً في نفي الشريف الحسين بن علي إلى جزيرة قبرص " ،العبارة غير واضحة، وفيها الكثير من الغموض والتداخل، ولا تقدم للقارئ أية معلومة مفهومة، أو رأي الأستاذ في الثورة العربية. ولا نفهم ما المقصود بها، هل أن الثورة العربية في الأساس كانت ضد الإنجليز أم ضد الأتراك؟ أم المقصود أنها تحّولت بعد التخلص من الأتراك إلى ثورة ضد الإنجليز؟ أم كان يريد الإشارة إلى رفض الشريف الحسين بن علي رحمه الله، التوقيع على المعاهدة الحجازية-البريطانية، التي تتضمن اعترافاً بالانتدابات في العراق وبلاد الشام وبوعد بلفور، فكانت نتيجة هذا الموقف القوي المشرّف، سلبه ملكه في الحجاز، ونفيه إلى قبرص؟

* الإخوان والدولة :
      قدّم الأستاذ العظم صورة مشرقة لخصوصية العلاقة بين الدولة الأردنية وجماعة الإخوان المسلمين، منذ عهد الملك المؤسس عبدالله الأول-رحمه الله -، لكنني لا أعتقد بأنه يمكن تفسير دعم الملك عبد الله بن الحسين، لجماعة الإخوان المسلمين، فقط في نطاق الصراع السياسي المحتدم، آنذاك في العالم العربي، وفقا لسياسة المحاور المعروفة. فالملك عبدالله ،هاشمي متدين، توجهاته الفكرية إسلامية عروبية واضحة، ومن هنا لم يكن منتظرا منه سوى مساندة كل عامل للإسلام. وكان مؤملا أن يستفيض الأستاذ العظم في التحليل، موضّحا التجربة الأردنية في منح جماعة الإخوان المسلمين فرصة العمل الشرعي المعلن، بخلاف ما حدث في أغلب البلاد العربية، وأن يقف عند العلاقة الحميمة بين الجماعة والدولة عبر النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا ما فعله الأستاذ فعلا عندما أشار الى أحداث العام 1957، عندما رفض الإخوان محاولة الانقلاب الفاشلة، ووقفوا لجانب الملك الحسين رحمه الله، في مواجهة أدعياء التقدمية والثورية الزائفة، وتجار الشعارات، ومحترفي الانقلابات، التي أرهقت عالمنا العربي بالقهر والدكتاتورية والهزائم، وهو موقف يعدّ في نظر الكثيرين من محبي الخير للأردن، وللعمل الإسلامي الراشد، من المحطات المشرقة في تاريخ الجماعة في الأردن، يؤكد وطنيتها، وتعاليها على ألاعيب المراهقة السياسية، وإنحيازها لأمن البلاد واستقرارها السياسي والاجتماعي، انسجاما مع نهجها الإصلاحي السلمي.

لاشك أنه نهج ساهم في تجنيب الأردن ويلات كثيرة، كما جنّب الجماعة نفسها محنا قاسية ذاق مراراتها الإخوان في بلاد عربية كثيرة، والأستاذ يقول عن هذه الحادثة "وقد خرج الجنود المؤيدون للملك ومعهم الإخوان المسلمون في الزرقاء في مظاهرة مؤيدة للملك، وكانت الجموع تهتف "الله أكبر ولله الحمد"، ويخبرنا أن هذا الموقف المؤيد للملك، قاد إلى أن جلالة الملك الحسين كلّف الأستاذ العظم، بتولي العمل في الإذاعة الأردنية، في رام الله ،في هذه اللحظة السياسية الحرجة.

       لكن الأستاذ العظم، عندما تحدث عن أحداث العام 1958، واستدعاء القوات البريطانية إلى الأردن، قال "ساءت العلاقات يوماً بين الجماعة والنظام؛ فقام باستدعاء القوات البريطانية إلى مطار عمان لحمايته، الأمر الذي جعل المراقب العام للإخوان المسلمين الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة أن يطلب مقابلة الملك الحسين رحمه الله محتجاً على هذا الاستدعاء. وجرى حوار حاد كان فيه الملك الحسين واسع الصدر حليماً لاستقبال هذا الاحتجاج والقبول به". يظهر من هذا النص أن استدعاء القوات البريطانية جاء نتيجة لسوء العلاقة بين الجماعة والنظام، وأن ذلك أدى لقطيعة طويلة بين الجماعة والنظام. أظن أن الأستاذ العظم قد خانته العبارة، وفي الحقيقة إن وصول القوات البريطانية إلى الأردن (17 تموز 1958) جاء بعد ثلاثة أيام على انقلاب عبد الكريم قاسم الدموي في العراق، إضافة إلى الأجواء السياسية المشحونة إقليميا ومحلياً، ولامجال للخوض في تفاصيلها هنا. وهكذا يكون هذا التوتر، نتيجة لاستدعاء القوات البريطانية، لا سبباً في استدعاء القوات تلك! ولعله من المفيد الإشارة هنا، إلى عملية تجري منذ سنوات، لإعادة إنتاج تاريخ علاقة الاخوان بالدولة، البعض (من اليساريين والقوميين) يستهدف إدانة موقف الجماعة المؤيد للدولة، في تلك اللحظة التاريخية الحرجة ويعدّونه من مثالبها  وغيرهم (بعض الإسلاميين) يريد تبرئة ساحة الجماعة من هذه (التهمة) ! بنفي حدوث ذلك التأييد ،أوبإعادة تفسيره !