قصة "العدالة غير العادلة"!

قدمتُ الأسبوع الماضي شهادة خبرة أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، في لاهاي، في إطار محاكمة الإعلامية اللبنانية كرمى الخياط، وقناة "الجديد"، بتهمة تحقير المحكمة، وعرقلة سير العدالة. وقد رُفعت هذه القضية بعد أن بثت الفضائية، في العام 2012، قوائم مسرّبة بأسماء أشخاص قيل إنهم شهود في تحقيق يتعلق باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في العام 2005.اضافة اعلان
استندت شهادتي إلى سيرتي المهنية كصحفية منذ العام 1984؛ في وكالة "رويترز" العالمية للأنباء، ورئيس تحرير صحيفة يومية سياسية شاملة (الجوردان تايمز)، وعضو لجنة تأسيس صحيفة "الغد"، وأخيرا مديرة تنفيذية لشبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية - أريج". وتمحورت أسئلة الدفاع والادعاء حول مكونات التدريب الإعلامي والقانوني والأخلاقي المتعلق بصحافة الاستقصاء، والتي وفرتها "أريج" لمساعدة "الجديد" على تأسيس وحدة للتحقيقات الاستقصائية العام 2012.
التدريب، وإشراف "أريج" باستخدام دليلها الإرشادي "على درب الحقيقة"، مكّن القناة اللبنانية من بث تحقيقات استقصائية في العمق، تناولت مواضيع ساخنة؛ مثل كشف تهريب سلع عبر التحايل في استصدار البيانات الجمركية في مرفأ بيروت، والعنصرية في مسابح لبنانية، ومنح شهادات تعليم مزورة. وأطلقت القناة لاحقا برنامجا دوريا بعنوان "تحت طائلة المسؤولية"، عماده النبش في قضية تهم الرأي العام، وتجميع الحقائق والأدلة بهدف كشف ممارسات مغلوطة لمتنفذين، بقصد أو بغير قصد، في إطار تحقيق مبدأ العدالة والمساءلة (لكن سلسلة التقارير التي بثّها "الجديد" عن شهود المحكمة لم تكن ضمن التقارير التي أشرفت عليها "أريج").
تجربتي أمام محكمة أنشئت بدعم من الأمم المتحدة للتحقيق في واقعة اغتيال الحريري إلى جانب 21 شخصا آخر، والتي أفسدت سلاما "هشا"، كانت تجربة ثرية على المستوى المهني والقانوني والشخصي، وسط حراسة شخصية صارمة لحماية أمن الشهود، وإجراءات مماثلة لإبعادهم عن أي تأثير خارجي.
فالقضية بحد ذاتها إشكالية. إذ بينما يرى منتقدوها -من إعلاميين ومنظمات حقوقية معنية بالدفاع عن حرية الرأي والتعبير مثل "آرتيكل 19" و"هيومن رايتس واتش"- أنها تثير تساؤلات مشروعة حول حرية الصحافة، كما تسدّد ضربة موجعة لصحافة الاستقصاء التي تكافح من أجل التغيير في العالم العربي، فإن الادعاء يصر على أهميتها لحماية شهود يمكن أن يتعرضوا للخطر.
المتهمون الخمسة في اغتيال الحريري -وجميعهم على صلة بجماعة "حزب الله" اللبنانية- ما يزالون خارج القضبان، بينما تحولت الصحفية الخياط إلى المتهم الأول أمام هذه المحكمة، مذ مثل الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور بتهمة ارتكاب جرائم حرب أمام محكمة مجاورة داخل المبنى ذاته.
كينيث سكوت، "صديق المحكمة للادعاء"، رأى في تصريح استباقي قبل شهر، أن المعلومات التي بثّها "الجديد" وخياط قد تدفع "الشهود للخوف وعدم المجيء للمحكمة للإدلاء بشهاداتهم". ولفت إلى ظهور "عديد ادعاءات ومزاعم لا أساس لها في هذه القضية على مدى الأشهر الماضية". وأصر على أن المحكمة "لا تستهدف حرية التعبير... فالقضية لا تتعلق بالحق في انتقاد المحكمة، بل بسلوك يعرض أشخاصا للخطر".
من جهتها، تقول الخياط؛ نائب رئيس مجلس إدارة "الجديد"، إنها نشرت قوائم منقحة، تجعل من المستحيل التعرف إلى هويات أصحابها ووجوههم. كما توضح أنها استهدفت من وراء ذلك حماية الشهود، وإبراز مشكلة المحكمة الخاصة مع سلسلة من التسريبات المتعلقة بهؤلاء. وهي تعتقد أن استهداف محطة تلفزيونية معروفة بتقاريرها "القوية"، ما هو إلا محاولة لترويع سائر وسائل الإعلام اللبنانية وإسكاتها، علما أنها المرة الأولى التي تتهم فيها شركة تدير "الجديد" بالإضافة إلى الخياط.
مصير الخياط أمام هذه المحكمة سيتضح خلال ثلاثة أشهر، في ختام الجلسات والمرافعات ومراجعة الأدلة. وهي ستواجه، في أسوأ الاحتمالات، حكما بالسجن قد يصل إلى سبع سنوات، وغرامة مشتركة مع "الجديد" تصل إلى 100 ألف يورو، أو بكلتا العقوبتين في حال إدانتها.
في كلمتها أمام جلسة المحكمة الافتتاحية، في 16 نيسان (أبريل) الماضي، ظهرت الخياط حادة وجريئة. شرحت أن "الجديد" تجرأت على كشف أخطاء فريق الادعاء الخاص بالمحكمة، وعدّدت على الأقل ستة أخطاء "أساءت لسمعة المحكمة وأضرت بها" وضلّلت مسار الحقيقة. وخلصت إلى القول: "هنا ندخل إلى نقطة العدالة غير العادلة". ثم تساءلت: من سيحاسب محققا دوليا مثل ديتليف ميليس، الذي قدّم تقريرا علنيا للأمم المتحدة حول تحقيقات لجنة التحقيقات الدولية، متضمنا أسماء ومقتطفات من شهادات سياسيين وقضاة وشهود أساسيين؟ كما تساءلت: "هل حاكمت المحكمة ميليس بعدما سجن أربعة ضباط لأربع سنوات، لأنه اعتمد على شهادات زور كان لقناة "الجديد" السبق في كشفها؟ وهل حاسبت المحكمة شهود الزور؟". واستفسرت أيضا فيما إذا كان يحق للمحكمة تسريب أسماء المتهمين الأربعة للإعلام الغربي، مثل صحيفتي "لوفيغاروا" و"لوموند" الفرنسيتين، وصحيفة "دير شبيغل" الألمانية، قبل صدور قرار الاتهام ضد هؤلاء المتهمين؛ "أم أن ما يحق للغرب لا ينطبق علينا"؟ "المحكمة لم تحاسب مدعيها العام بموجب المادة 60 مكرر من قواعد الإجراءات والإثباتات التي تحاكمون بنا اليوم". وتساءلت عن العدل الذي يعطي سلطة واحدة صلاحيات غير مسبوقة من دون مجلس أعلى يراقب "عملكم ويحاسبكم على أخطائكم". وختمت قائلة: "هل أصبح في عالمنا الحديث عدالة دكتاتورية؟".
شهادتي في 12 أيار (مايو) الحالي تمحورت حول المسموح والمحظور في الاستقصاء، واعتماد الصحفي الاستقصائي على مصادر سرية لا يمكن الوصول إليها من دون استراتيجية وتخطيط مسبق ومحاولات متكررة لكسب ثقة هذه المصادر وضمان حمايتها وسلامتها الشخصية، في تمايز عن الصحفي الذي يمارس العمل الإخباري التقليدي، ويعتمد غالبا على مصادر معرفّة.
على مدى أربع ساعات، تعرضت لأسئلة فريق دفاع كرمى الخياط وتلفزيون "الجديد"، ومن كينيث سكوت الذي دقّق أقوالي وقاطعها مع إفادتي المكتوبة وشهادتي أمام المحكمة. فلم يترك نقطة إلا وتطرق إليها ونبش فيها؛ وهذا دوره.
وقد شدّدت على ضرورة التدقيق في فحوى كل حرف ينشر/ يبث، وصدقيته، ومقارنة ذلك مع الأدلة والحقائق المكتشفة، وضرورة فحص نوايا وأهداف مسربي الأخبار، ثم تدقيق محتوى التحقيق قبل النشر/ البث، لضمان تماشي مضامينه مع أخلاقيات المهنة. بعد ذلك، يخضع النص للرأي القانوني على يد محام متخصص، لأن هذا الحقل الصحفي قد يعرض من يقوم به لمساءلة قانونية، أو لحملة شرسة من المتضررين. وأشرت إلى أهمية إيجاد معادلة بين حق النقد المباح والمتاح، وبين المحاذير القانونية والأخلاقية.
كما تحدثت عن المعوقات القانونية في الوصول إلى المعلومات في العالم العربي بعكس الغرب، والضغوط القانونية والمجتمعية التي يتعرض لها الصحفي الاستقصائي. كما تحدثت عن المعايير الأخلاقية لدى استخدام التصوير والتسجيل السري للحصول على أدلة قاطعة عن الانتهاكات. وأوضحت أن هذا المخرج يتم في أضيق الحدود؛ كاستثناء، بهدف إثبات الأدلة في حال تعرض الإعلامي للمساءلة، وتأكيد حسن النوايا في خدمة القضايا المؤثرة في المجتمع. واستعرضت تقاليد صحافة الاستقصاء وآليات عملها الراسخة المعززة بضمانات قانونية وسياسية في الغرب، حيث تجذّرت بعد عقود من الممارسة بتشجيع المجتمعات. وأوضحت أن هذا الضرب من الإعلام ما يزال يحبو في عالمنا العربي. ودعوت إلى تعظيم الفوائد عبر التعلم من تجارب الآخرين، وتشجيع المبادرات الذاتية. ولا مكاسب من دون متاعب.
وخلصت إلى القول إنه لا عيب في مثول الصحفي الاستقصائي أو التقليدي أمام المحكمة في سبيل كشف الحقيقة؛ فهذا خيار شخصي مدروس، يقرّره الصحفي لحماية المصلحة العامة. لكن عليه أن يكون متسلحا بالحقائق الساطعة والبراهين لإثبات حسن النية، وأن الهدف هو حماية المصلحة العامة. فالصحفي الاستقصائي وُجد لخدمة المصلحة العامة، ولكي "يهز القارب" ويسمي الأشياء بأسمائها. كما يؤشر إلى المتسببين؛ لاسيما أن الإعلامي يعمل في أخطر مهنة، في أخطر بقعة في العالم أحيانا.
ارتكاب هفوات مهنية قد يكون مبررا للصحفي الذي يتابع الخبر اليومي، لأنه يسابق الزمن ومواعيد النشر/ البث. لكنّ هذا غير مقبول للصحفي الاستقصائي الذي يمضي وقتا كافيا في البحث والتمحيص وجمع الأدلة والحقائق، قبل مواجهة المتسبب، تمهيدا للنشر/ البث. ذلك أن ارتكاب أخطاء يضر بسمعة هذا الصحفي وصدقيته إلى الأبد.
كانت الشهادة تجربة ثرية: جدال حول الصحفي الاستقصائي الذي لا يستطيع العمل من دون مصادر سرية وتسريبات، بشرط حماية سرية المصادر وعدم تهديد حياتها وأرزاقها، حال المحكمة التي لا تستطيع العمل من دون شهود لا يخشون الإدلاء بشهاداتهم. وجدال حول المحافظة على أسرار المصادر وضمان ثقتهم. وجدال حول تفحص "وزن الأدلة" التي يجمعها الصحفي الاستقصائي قبل أن يحدد المتسبب، وماذا فعل؛ حال القاضي العادل الذي يجمع الأدلة للخروج بحكم نهائي.
ويبقى الأمل في أن تتوصل المحكمة إلى خلاصات عادلة لصون متطلباتها وحماية مقومات ديمومة صحافة الاستقصاء في عصر الردّة العالمية على الحريات.