قفل الفرج

جرَّبَ المفتاح المشغول من معدن الصبر الصلب في كلِّ الأبوابِ المغلقَةِ، ولم يفتح أحدها، بل إنَّ بعض الأقفال صدَّته قبلَ محاولةِ الدخول في الحيِّز الرقيقِ جداً لتجربَةِ المفاتيحِ المُجَرَّدَةِ من الأدْعيَةِ والرجاءات الصادقَةِ. غمَّسهُ بالزيتِ البَلَديِّ، حسبَ نصيحَةِ الجارَةِ المُعَمِّرَة، ونسَخَ عنه واحداً آخر، كما أشار إليه العاملُ الوافدُ، وجرَّبَ حيِلاً كثيرَةً، أفادَهُ بها أشخاص غامضون بهالَةٍ عظيمَةٍ خلفَ الأبواب!اضافة اعلان
حرَزَ المفتاح المشؤوم في صرَّةٍ طاهرَةٍ، وزاوَلَ العَيْشَ بالاتكال على طالع بُرْجِهِ المتفائل في الصحيفَةِ المتعثِّرَة، وتنبؤاتِ العرَّافَةِ المَدْفوعَةِ مُسْبَقاً، وأمنيَةِ المُتَسوِّلَةِ المبتورةِ اليد بتسهيل أمره، وقول شعري ذائع يروِّجُ الحياةَ بأنَّ عليها ما يستحقُّ الحياة، واستعانَ بصلاة أمِّه الصباحيَّةِ، وتوصيات ورشة عمل لرفع مستوى الدخل..؛ حمَلَ كلَّ ذلك وأكثر، ووضعه في قِفْلِ الفَرَجِ المغلق!
خرَجَ إلى الشارعِ صباحاً مُتفائِلاً، بدافعٍ من حلمٍ غريبٍ فسَّرَتْهُ له عمَّتُه الستينيَّةُ العانس بأنَّ حظه هذه الأيام يشطرُ الحَجَرَ الصوان إلى شطريْنِ متكافئيْنِ، فابتاعَ نصفَيْ ورقتَيْ "يانصيب"، في يوم السحبِ تماماً، وزاوَلَ العيش بفرحٍ غامضٍ أعانَه على أنباءٍ سيِّئةٍ حدثت أثناءَ تنفيذ ما خرجت به ورشة العمل الخاصة برفع مستوى الدخل، فقد قالت الصحيفَةُ المتعثِّرةُ إنَّ توصياتِها متفائلة كأحلام اليقظةِ. وفي اليوم التالي نشرت الصحيفةُ ذاتها نتائجَ سحب "اليانصيب"، ولم تكسب الورقتان، رغمَ أنَّ طالعَ برجه في الصفحة الثانيَةِ قال إنَّهُ يشطرُ حجر الصوان إلى شطرين متكافئين، ومن باب المزح الثقيل أخبره المحرِّرُ الظريف أنَّ رقم الحظ 13!
ليست في جيبِهِ سيولةٌ كافيَةٌ لتناولِ وجبَةِ غداءٍ بقوليَّةٍ في مطعم شعبيٍّ، فيستغني عنها، ويذهبُ بثمَنِها إلى حبٍّ ممكنٍ، شاهَدَهُ مئات المرَّاتِ في الأفلام الشبابيَّة. الأمر فقط يتطلبُ أنْ يُصدِّقَ "قارئة الفنجان" التي رأت كلَّ طرقه مفتوحَةً تحت سماءٍ صافيَةٍ، فكان اللقاء في مكانٍ ما قربَ قصر الفتاة الذي يحرسه "كلابٌ وجنود". أحبَّها كما يُحبُّ نجمة في التلفاز أو في السماء، وكان قد ألصق صورةً تقريبيَّةًٍ لها على حائطه المتصدِّع، وسرَّبَ بعض بياناتها لأمِّهِ لاستخدامها في مفردات الدعاء له بتعثُّرِهِ القريب بـ"بنت الحلال"!
والأمرُ تطلَّبَ خطوةً فعليَّةً أخرى، فذهَبَ بما ادخره من وجبة الغداء إلى "مقهى إنترنت" باحثاً عن موقع إلكتروني يجتهِدُ في معرفة طالع أيِّ اثنين يرغبان بالزواج من بعضهما، ولأنه هو مَنْ يرغبُ فقط، فقد وضَعَ بياناته في خانة وبياناتِها في خانة أخرى، ثمَّ جاءَهُ الجَوابُ بمجَرَّدِ النقر الرقيق على دائرة النتيجة التي كانت تفيدُ أنَّ زواجهما ممكن بنسبة 90 %..؛ فقط عليه الانتظارُ قليلا..، ومرَّ عُمْرٌ، وأكثر من عُمْرٍ ولم تأتِ "بنت السلطان"!
أدرَكَ متأخِّراً أنَّهُ أضاعَ الكثيرَ من الوقتِ في الاتكالِ على الحظِّ المُشْتَرى، والدعاءِ البليغِ، والقول الشعريِّ المتفقِ عليه..؛ وأهمَلَ المشيَ في الطريقِ المُخْتَصَرِ، مع الناس في الشارع، وشقِّ مسار التغيير. ولما فعَلَ ذلك، وسقطت من حياتِهِ أنظمَةُ "التحكُّمِ عن بُعْدٍ"، باتَ طليقاً، يستمعُ إلى "المحلَّلِ السياسيِّ" الذي بشَّرَ بأنَّ كلَّ الناس سيسكنون في قصورٍ لا تحرسُها "الكلابُ والجنودُ"، وبموازاة ذلك أكَّدت الصحيفة المتعثِّرَةُ أنَّ الزمان لن يعودَ خطوةً واحدةً إلى الوراء، وحثَّتْني على المشاركة في الانتخابات النزيهة، فوجَّهتُ صوتي إلى المستقبل، وكذلك فعَلَ الناسُ، وكانت النتيجة أنْ فازَ "السلفيُّونَ"!
لم تعد تجد المفاتيح. تأكَّدَ من ذلك، خصوصا لما دخَلَ إلى عمارةٍ حديثَةِ الطراز، باحثاً عن عمل، ولم يجد بوَّابا يفتحُ له بابها الزجاجي. سأَلَ أحد الداخلين فأخبره بتذمر أنَّ عليه كتابة رقم سري عند مقبض الباب. كتبَ بسلاسَةٍ الرقم 13، ففُتِحَ البابُ بلا تلكؤ، دخَلَ خطوتَيْن مرتبكتيْنِ إلى الأمام، فكان بانتظاره بابٌ خشبيٌّ آخر، له قفلٌ يحتاجُ مفتاحاً مشغولاً من معدن الصبر الصلب!